أنت هنا

قراءة كتاب الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

كتاب " الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

ثم إن هذه الحكمة مبنية على مبدأ معلوم من مبادئ العقيدة، وهو أن من الثابت باليقين العلمي والنصوص القاطعة أن الله هو الذي يخلق أفعال العباد، وهو مصدر القوى والقدر كلها.

أما المثوبة والعقاب، فإنهما يدوران على محور القصد والعزم، لا على الفعل المادي الذي هو بخلق الله عز وجل؛ والمصطلح القرآني الذي يعبر عن القصد والعزم، هو «الكسب» في مثل قول الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 2/286] .

وإياك أن تتوهم الخطأ الفادح الذي يقع فيه عوام الناس وكثير من أنصاف العلماء فيهم، إذ يتوهمون أن القضاء هو إلزام الله الإنسان بما حكم عليه به، ومن ثم فإن بين القضاء الإلهي وحرية التصرف تناقضاً حاداً، يمنعهما من التلاقي والاجتماع، فيما يحسبون أو يتوهمون.

إن معنى القضاء فيما يتعلق بأفعال الإنسان وتصرفاته الاختيارية، علم الله عز وجل بما سيختاره الإنسان ويفعله. والقدر وقوع هذه الأفعال أو التصرفات مطابقة لعلم الله. إذن فلا علاقة بين القضاء الإلهي، ووقوع الإنسان في قيود الجبر وأسره.

على أننا نقول هنا كلاماً موجزاً في مسألة الجبر والاختيار وما يتعلق بهما، فإن أعوزك التفصيل، وكنت ممن غُمَّ عليه هذا البحث، فارجع إلى تفصيل القول فيه، في كتابي (الإنسان مسير أم مخير).

فابن عطاء الله يبني حكمته هذه - كما قلت لك - على هذا المبدأ الذي هو من أهم مبادئ العقيدة الإسلامية. غير أنه ليس معنياً هنا بالتركيز على معناه النظري ودلائله العلمية التي تبسط في أماكنها من كتب العقيدة. وإنما الذي يلفت إليه النظر في حكمته هذه، هو ضرورة وضع المسلم هذا المبدأ الاعتقادي الهام، من حياته موضع التنفيذ، ولا يحبسه في مخزن المعارف النظرية من فكره. وذلك هو شأن المسلم الذي هيمنت عقائد الإسلام على كيانه فغدت القائد الأوحد له في سائر سلوكاته وتصرفاته.

ومن ثم فإن من شأن المسلم الذي صحا إلى معاني التوحيد وسلطانها على كيانه (وهو المقصود بالعاقل) كلما أصبح، أي كلما أقبل على شأنه الذي أقامه الله فيه، أن ينظر أي يتأمل ويفكر فيما يفعله الله به. ترى هل سيوفقه الله فيما قد عزم عليه من الأفعال والتصرفات والمشاريع؟.. هل ستمتد به الحياة فيعيش بياض يومه الجديد هذا؟ هل في قضاء الله تعالى أن يبتلى بمصيبة ما في جسمه أو ماله أو بعض من أهله؟[1].

ونظراً إلى أن الحقيقة العلمية، تقول لصاحب هذه التساؤلات: لا أملك من علم هذه الأمور الاحتمالية شيئاً، وإنما مردّ ذلك كله إلى الله ومشيئته، فإن الشأن فيه أن يعلم في كل لحظة، لا في كل صباح فقط، أنه إنما يتحرك في قبضة الله، ويُساق تحت سلطان الله. فهو مهما قرر وخطط، ومهما عزم على أن يفعل أو يترك، لا يملك أن يتحرك إلا بمدد من الله وعون منه.

ومن ثم فإن الشأن فيه أن يستعمل ملكة الاختيار التي متعه الله بها، وأن يتوجه بها إلى العمل الصالح الذي شرعه الله وأمر به، مما يعود بالفائدة الدينية أو الدنيوية إليه وإلى إخوانه، وأن يعزم على النهوض به، خدمة للأمة، وإرضاء لله عز وجل، وأن يسعى سعيه للإنجاز والتنفيذ، على أن يستسلم في الوقت ذاته لتدبير الله، ويتكل على توفيق الله، وعلى أن يعلم أن مشيئة الله هي النافذة. ومن ثم فهو يسعى سعيه إلى إنجاز ما عزم عليه، منتظراً ظهور قرار الله في شأنه، متسائلاً عما يفعل الله به.

فمن هنا جاء الأدب الإسلامي بتنبيه المسلم إلى أن يقيد وعوده وإخباراته عن الأعمال والتصرفات

التي عزم على إنجازها، بمشيئة الله عز وجل. ليأتي كلامه بعد تقييده بمشيئة الله أرسخ في دائرة الصدق، وأبعد عن احتمال الكذب والخلف. وبوسعك أن تتبين أهمية هذا الأدب الإسلامي، في هذا الكلام الذي يخاطب الله به رسوله محمداً r: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 18/23-24] .

وأجلى من ذلك في هذا الباب قول الله تعالى لرسوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الأحقاف: 46/9] .

وأصح ما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} لأن ذلك عائد إلى أمور الدنيا وتقلباتها، أما في يوم القيامة فقد أنبأ الله رسوله بما قد أعدّ له فيه من المقام المحمود والحوض المورود والمكرمات التي لا حصر لها[2].

فإذا التزم المسلم تجاه شؤونه وأعماله وتصرفاته التي يقبل إليها، بهذا التسليم موقناً بأن الله هو المسيّر له في كل شؤونه وتقلباته، فإنه لا يفاجأ من إرادة الله فيه وقضائه بحقه، إلا بما يستيقن أنه خير. ذلك لأنه إنما ينسب النتائج كلها إلى إرادة الله وحكمه. والمؤمن بالله حقاً لا يكون إلاّ واثقاً بحكمة الله ورحمته، ومن ثم فهو يوقن بأن ما اختاره الله له هو الخير، حتى وإن كان ظاهره دالاً على خلاف ذلك. كيف لا وهو يقرأ قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 2/216] ، ويقرأ قوله عز وجل: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 4/19] .

وحتى في الأمور التي لايستبين له، ولا لغيره، وجه الخير فيما اختاره الله له وقضى عليه بشأنها، فإنه لا يشك في أنها تربية من الله له، وإيقاظ له من التيه أو الغفلة إلى مزيد من الانضباط بطريق الرشد، فهي وإن تلقاها ضربات موجعة، ولكنه لا يشك في أنها كعصا المؤدب، موجعة في وقعها ولكنها مريحة بل ممتعة في عاقبتها. ورحم الله من قال:

فقسى ليزدجروا ومن يك راحماً

فليقس أحياناً على من يرحم

ولا تسل على السعادة النفسية والصحة الجسدية اللتين يحرزهما الإنسان لنفسه، إذ يكون من صنف «العقلاء» على حدّ تعبير ابن عطاء الله، فيتلقى الظروف التي تمرّ به، والأحوال التي يفاجأ بها، والأعمال التي تصدر منه أو التي يعزم عليها، على أنها اختيارات من الله، وأحكام قضى عليه بها، وأنه في خضم الحياة التي يعيشها لا يملك أن يفعل، بقدرة وسلطان منه، شيئاً، بل هو الله وحده، يفعل به ما يشاء.

مثل هذا الإنسان لا يعرف التوتر العصبي إليه من سبيل... ولا تجد الكآبة إلى نفسه، ومن ثم إلى قلبه، أي منفذ. وقد تتركه الدنيا كلها، في بياض يوم واحد، بعد أن ذاق طعمها، وتقلب في نعيمها، فلا يودعها إلاّ كما استقبلها، بنفس مطمئنة راضية، وبأمل مزدهر من الله عز وجل بأن خيراً سيفد إليه من خلال هذا الشر أو من ورائه، وبأن الله يمتحن في هذا الابتلاء صبره، وأن عاقبة صبره ستأتي مثقلة بأضعاف ما قد خسره أو فقده الآن.

فتلك هي حالة المؤمن الذي إذا أصبح ينظر ما يفعل الله به، وقد علمت معنى كلمة «ينظر». وعن هذا الفريق من المؤمنين يقول رسول الله علية الصلاة والسلام : «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن. إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له»[3].

بل المؤمن الصادق في إيمانه لا يكون إلاّ كذلك، أي لا يرى نفسه إلا متقلباً في كل الأحوال، في قبضة الرحمن، ومن ثم فإنه لا يرى نفسه إلا ممتعاً بخير محظياً بما يسره ويسعده إن عاجلاً أو آجلاً.

* * *

الصفحات