أنت هنا

قراءة كتاب مدن فاتنة وهواء طائش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدن فاتنة وهواء طائش

مدن فاتنة وهواء طائش

في كتاب "مدن فاتنة وهواء طائش"، أخذنا محمّد إلى بيته. قاد سيارته في الشارع المتعرّج بسرعة زائدة، أو هكذا خيّل لي، ما جعلني متوجساً طوال الوقت. (ستتكرر هذه السرعة في الأيام التالية، سيجدها محمد أمرا عاديا، سأجدها امرا مربكا. هذا الإيقاع السريع يربكني!

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
-2-
 
في العطلة الصيفية التي ستحل بعد عام، أغدو أقرب إلى رام الله·
 
ينصب أبي خيام ورشته في الطيرة، حيث تجثم الآن مباني دار المعلمات، التي دخلتها العام 1965 لأشارك في ندوة قصصية أمام المئات من طالبات الدار· لأول مرة في حياتي، أقرأ قصصاً أمام الجمهور· قرأت على أسماع الطالبات قصة (اليوم الأخير) التي كتبتها قبل ذلك اليوم بوقت ما، ثم نشرتها في مجلة (الأفق الجديد) المقدسية·
 
اختار أبي موقعاً لخيامه، لا يبعد كثيراً من الشارع الذي يجري العمل فيه، للربط بين قرية عين قينيا ورام الله· لم يعد أبي بحاجة إلى حمار ينقله أول كل أسبوع من قرب سينما دنيا إلى الطيرة، فالمكان قريب، ويمكن الوصول إليه سيراً على الأقدام خلال دقائق· كان لأبي سرير حديدي يرافقه في كل مكان يقيم فيه، وهو يتنقل من قرية إلى أخرى لشق الطرق· تبدّت قيمة هذا السرير في الطيرة بالذات! أما أنا فقد كنت أفرش كل ليلة بطانيات فوق أرض الخيمة الترابية، ثم أجيل النظر في أرجاء الخيمة قبيل إطفاء ضوء (الفنيار) الشحيح، فذلك واجب تقتضيه متطلبات السلامة، أقصد سلامتي الشخصية· يستلقي مساعد والدي فوق بطانياته في الجهة المقابلة لي، يقوم بالواجب نفسه حفاظاً على سلامته الشخصية، بل إن والدي، وهو مستلق في علياء سريره، يمارس هو الآخر أعمال المراقبة، ولم يكن صعباً علينا تحديد الأهداف المعادية· بعد ذلك مباشرة، نبادر إلى حمل أحذيتنا، نهوي بأعقابها على العقارب الساعية هنا وهناك، نسحقها، نتلذذ بسحقها، ثم نجلس في انتظار أن تظهر عقارب أخرى تنغل بها التربة الحمراء، أتحسر على الغرفة الواسعة ذات الشبابيك المستطيلة في عين عريك· مع ذلك، لا بد من النوم في نهاية المطاف، لأنه لا يعقل أن يظل المرء ساهراً في انتظار عقرب لا يدري متى سيظهر له، لكي يقتله قبل أن يلدغه· يقرأ مساعد أبي آية الكرسي بصوت مرتفع، كأنه يأخذ على عاتقه أمر حمايتنا جميعاً من خطر العقارب· ولا بد من أن أبي كان بدوره يقرأ الآية نفسها، من دون أن نسمعه، لأن عقرباً ظهر ذات ليلة على قماش الخيمة فوق رأسه· أما أنا، فلم أكن أحفظ سورة الكرسي، أكتفي بقراءة سورة الفلق ثلاث مرات متتالية، ثم أنام·
 
من موقعي الريفي في الطيرة، بدأت أعدّ خطط الغزو، غزو رام الله ذات الأسرار المثيرة للفضول· (لم أكن آنذاك قد قرأت خطط ماوتسي تونغ لغزو المدينة من الريف!) أعد الخطط بيني وبين نفسي من دون علم أبي، لأنه قد يعتبر ذلك ترفاً لا لزوم له· لم يحدث هذا الأمر، أقصد الرغبة في غزو المدينة، صدفة! ثمة مقدمات لذلك، وقعت من دون قصد مسبق·
 
ذلك أنني اعتدت في ساعات ما بعد الظهر، رؤية أسراب من النساء الشابات والفتيات اللواتي يكبرنني قليلاً أو يصغرنني قليلاً في السن، يتهادين فوق الطريق الترابي، قادمات من رام الله، وهن يرتدين ملابس مدنية تكشف عن سيقان بيضاء متناسقة وأذرع رشيقة· يلهب منظرهن الطازج خيالي، أزداد قناعة بأن رام الله تنطوي على مكر غير قليل، وهي ترسل لي (لي!) هذه الأسراب من النسوة الفاتنات الذاهبات الى الكروم في أوقات الأصيل الرخية· صارت المرابطة على ناصية الطريق واحدة من مهامي اليومية، أراقب النسوة والفتيات عن قرب، أمتع ناظري بأشكالهن الجميلة، وبجمالهن الخلاّب· أستمع إلى كلامهن العذب وبعض تعليقاتهن التي تعقبها ضحكات موزونة رقيقة·
 
لم يخطر ببالي مرة أن أتبعهن إلى الوادي حيث كروم التين والعنب، لأن ذلك سيفسد خططي، سيجعل أبي ينتبه إلى أن ثمة اختراقاً في جدار مراقبته لي قد وقع، بل إنني كنت أحتاط لمرابطتي على ناصية الطريق إزاء أية مساءلة، أصطحب معي رواية لمحمد عبد الحليم عبد الله· كنت مغرما آنذاك بقراءته· أصطحب معي (بعد الغروب) أو (شجرة اللبلاب) يبدي أبي ارتياحه لمجرد أن يراني أقرأ في أي كتاب، المهم عنده أن أقرأ دوماً، لأن الكتاب، أي كتاب، مرتبط في ذهنه بالمدرسة، والمدرسة هي التي سوف تمنحني شهادة المترك، والشهادة هي التي ستأخذني إلى الوظيفة، والوظيفة هي التي ستمكنني من مساعدته على تحمل نفقات الأسرة الكبيرة· كانت روايات محمد عبد الحليم عبد الله، بما تخللها من رومانسية مجنحة، تملأ نفسي بالمشاعر الجياشة، وبالرغبة في التشبه بأبطالها من الموظفين الذين يستأجرون بيوتاً للسكن في المدينة، ثم تسوقهم الظروف الى الوقوع في حب نساء ينتظرن قدومهم لكي يقعوا في حبهن، أو لكي يقعن في حبهم·
 
كنت راغباً في الذهاب إلى رام الله، للتجوال في شوارعها وأحيائها، لعل فتاة جميلة فارعة القوام تنتظرني هناك، لكي تقع في حبي أو أقع في حبها· كان محمد عبد الحليم عبد الله مسؤولاً عن ذلك إلى حد كبير! جاءت الفرصة السانحة بفضل أبناء عمومتي الذين يعملون في الورشة مع أبي· هم أول من اقترح عليّ الذهاب لاستئجار الدراجات الهوائية، فرحت لذلك، لأن ثمة من يفكر مثلي بغزو المدينة·

الصفحات