You are here

قراءة كتاب آثار الوثاق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
آثار الوثاق

آثار الوثاق

كتاب " آثار الوثاق " ، تأليف جليل حسن محمد ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

1ـ تحدي رجال السلطة والحكام

إن طبيعة الجواهري الثائر وجدت في الأوضاع ما يزيدها لهيباً وسعاراً، فلقد توالت عليه أحداث جسام تنوعت بين مطاردة تتكرر وسجن يعاود وصحيفة تحتجب ومقتل أخ عليه عزيز،تلك هي معاناة الجواهري وليس هناك عنصر يفوق أهمية عنصر المعاناة في أثناء اللحظة التكوينية للقصيدة([6]) وقد تهيأ للجواهري أن يودع شعره طاقات إيجابية مكنته من مواجهة السلبيات ومقارعة بواعث التردي (على اعتبار أن الظروف التي لا تكون في صالح الجماهير يجب أن يقابلها الشعر النقيض لها أي شعر في صالح الجماهير لا الشعر المساير للسلبيات بنتائجها إذ لا يعقل أن يقع الشعر بضمن النتائج للأفعال السلبية المفروضة قسراً لانه لم يكن جزءاً منها ولا نتيجة من نتائجها وإنما هو رد فعل ضدها وكل رد فعل للأمور السلبية لا يمكن أن يشابه الفعل السلبي ويسايره على اعتبار أن المسايرة ـ في هذه الحالة ـ هي التخدير أو التنويم المغناطيسي وبهذا المفهوم لا يعتبر رد فعل بل هو انقياد بينما الشعر الناتج من جراء المؤثرات السلبية يجب أن يكون رد فعل إيجابي ذا أثر فعال)([7]).

ومن هنا شنّ الجواهري حرباً ضارية على عوامل الفساد مجاهراً برفضه الواقع متطلعاً إلى مستقبل أفضل بديل يكتسح معه مساوئ الحاضر القائم لبناء صرح جديد مشرق وأيقن أن تلك الآمال التي تساوره وتساور شعبه لا ترى النور إلا بتقويض صروح الطغاة والتصدي الحازم للمستعمرين ومآربهم بيد أن الطريق إلى ذلك شاق عسير، وأي مطمح ينقاد لصاحبه بلا ثمن؟

فما أن يليق بمجد النضال

ضعيف على نصره يغضب

وأن غـداً باسماً يُـجتلـــــــى

بشق النفوس ولا يوهب([8])

فالأماني يسوقها من يستسهل الصعب ويأتي العظائم:

ومن يتطلب مصعبات مسالك

فأيسر شيءٍ عنده المركب الصعب([9])

وليس شيء أولى ـ قبل البدء ـ من مجاهدة النفس وترويضها على العزم لتخليصها من أوشاب الضعف والوهن.

ولي نزعات أبعدتها عن الخنا

سجية نفس هذبتها الشدائد([10])

وقبل أن تنوش السيوف مفارق الأعداء لابد من عزائم تعين على الفعل المقتدر وإلا فلا خير يرتجى من السيوف في ظل عزائم خائرة.

وما ضرهم نبو السيوف وعندهم

عزائم من قبل السيوف قواطع([11])

والجواهري إذ يرينا عزيمة نفسه إنما يرينا صورة للعزيمة المثلى المبتغاة وهي أصلب من الصخر وأعتى من الإعصار وأدمر من الخطوب:

ما حطمت جَلَدي يد النُّوَبِ

لكن تحطمـت النــــوائـب بـي

قل للخطوب إليك فابتعدي

ألمسـتِ بـي ضـعفاً لـتقتــــربي

أنا صخرة مـــــا إن تـخوفني

هذي الرياح الهوج بالصخب([12])

وتمضي السنون وعزيمة الشاعر لا تشيخ ولا تهرم تغريها الأيام بخذلان صاحبها وهي تأبى أن تهجره أو أن تتوانى عن نصرته وآية ذلك الإصرار الذي لا تلبسه الهوادة للشاعر الشيخ لاسيما في بيته الأخير من هذا النص:

في الكـف مطرقتــي أفـل بحدها

أصــــــلاب أوغاد وهـام طغـاةِ

ستون عاماً خضتها كمخاضكم

لجج الحيــاة عنيفـة الغمـرات

أجتـاز منـهـــــــــا لـجة وتلفـني

أخـرى وتفسد لفها عـزماتي

بيدي أشد فإن هوت فبساعدي

فإذا التوى فبماضغي ولهاتي([13])

والعزيمة الراسية على دعائم متينة لا تلين لسحر المغريات غنما تتحصن من المكاسب الآتية المثبطة للهم مثلما تتحصن من المحن نفسها:

أبوا الخنوع فآثروا أن يُقبلوا

والمغريات تريدهم أن يدبروا([14])

وحمل النفس على قبول ما يخشن والسمو بها على الملذات ينأيان بها عن عروض مغرية محتملة غايتها استمالة العزوم وكسر طوق التحدي لذا يقول الجواهري:

ووطنت نفسي كما تشتهي

على مطعم خشن أجشبِ([15])

ولاشك في أن قهر ملذات النفس يستل منها الخوف ولاسيما وأن الطريق الذي يختاره المناضلون طريق تحفه المخاطر من كل حدب وصوب وايسر تلك المخاطر عليهم الجوع والعري فتلك معان (تدفعك إلى الاهتمام والثورة الوجودية الهائلة أمام الذات وأمام العالم معاً)([16]) يصوغها قلم الشاعر الفنان بقوله:

وليـــــس بـحر من إذا رام غاية

تخوف أن تـرمي به مسلكاً وعــرا

وما أنـت بالمعطي التمرد حقه

إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى

وهل غير هذا ترتجي من مواطن

تريد على أوضاعها ثورة كبرى([17])

فالخوف والتحدي ضدان لا يجتمعان في صدر ومن هنا ينفي الجواهري عن نفسه الاختفاء عن جماهير شعبه على مدى ستين عاماً لعلمه أن الاختفاء هزيمة وفي الهزيمة دلالة بائنة على الخوف لذا فهو حضور دائم في الموقف الضنك إذا استرفده القوم أرفد:

ستون عاماً لم أحاول ساعةً

أن أختفي عمن هنالك أو هنا([18])

والشاعر يؤمن إيماناً لا ينازعه شك بدور القوة في مظاهرة الحق وتأييد مريديه إذ يميز بين قوتين إحداهما للباطل تنتصر وأخراهما للحق تنزع غير أن الغلبة في نهاية المطاف حليف الحق وإن قصرت وسائله والخيبة المرة قرينة للباطل وإن تظاهر بالعدة والعدد:

فاصمد فحقك قوة مرهوبة

الأقويـــــــــاء إزاءه ضعفاء([19])

وما أعظم القوة ساعة تجرف موانع الجائرين وتقتحم بيوت الطغاة وتنقل الصراع إلى عقر دارهم فيطرقون صاغرين أمام كبرياء الحق وثورة أهله:

آليـت اقتحم الطغــــــاة مـصرحاً

إذ لـــــم أعـود أن أكـون الـرائبا

وغرست رجلي في سعيـر عذابهم

وثبت حيث أرى الدعي الهـاربا

ماذا يضر الجـوع؟ مجـــــد شامخ

أنـي أظـل مع الرعيــــة سـاغبا

يتبجـحون بأن موجاً طـــــــاغياً

سـدوا عليـه منافــــذا ومساربا

كذبوا فملء فم الزمان قصائدي

أبـداً تجـوب مشارقـــــا ومغاربا

تستل من أظفارهم وتحـط من

أقدارهـم، وتـثــــــل مجداً كـاذبا

أنــــا حتفهم ألج البيوت عليـهمُ

أُغـري الوليد بشتمهم والحاجبا

أنــــــا ذا أمامـك ماثـلاً متـجبراً

أطأ الطغاة بشسع نعليَ عازبا([20])

ونظير هذا في انصياع الباطل لجبروت الحق الذي لا يوقف زحفه مكابر قوله:

إن الجهاد صحيفة مخضوبة

جمدت عليه للشعوب دماء([21])

ويلفت الشاعر الأنظار إلى جدوى القوة فيجد فيها أفضل معبر إلى المجد المنشود الذي ينتظر قصاده وراء جبل من لهيب النار ودم الشهيد:

ردي علقم الموت لا تجزعي

ولا تـرهبي جمرة المصرعِ

فما سعرت جمرات الكفـاح

لغيـر خليق بـهـــــــــا أروع

فأنشودة المجد مــــا وقعـت

على غيــــر أوردة قـطـــع([22])

وتعد القوة للشعوب المضطهدة بمثابة العتاب القوي للمتجبر الذي لا يعي سوى منطق القوة التي تزلزل كيانه:

وإذا عتبت على القوي فلا يكن

إلا بأطـــــراف الحراب عتاب([23])

ويسوغ الشاعر الحقد على مسببي التدهور ومرتكبي الظلم، وقد جاءت صيغتا (الأوجع والأبشع) في النص الآتي لترجحا التكثير والزيادة في ضربهم جزاء وفاقاً لتماديهم في العسف:

جزائر كِيلي بصاعي حقودٍ

عــــــــمٍ في ضـراوته مُـقذعِ

على موجع الظلم بالأوجـع

ومستبشع الحقد بالأبشع([24])

إن الطبع الرقيق المسالم مع البغاة الكائدين لا طائل من ورائه ولا مناص من أخذهم بالقسوة والحدة ومقابلة كيدهم بكيد أشد وأعظم:

تحـولت من طبع لآخـــر ضـده

من الشيمة الحسناء للشيمة النكرا

وكنت وديعاً طيب النفس هادئا

فأصبحت وحشاً والغاً في دم نمرا

فلو دبر الباغون للكيـــد خطـة

رأوا إنني منهم بتدبيرها أحرى([25])

ويدعو من منطلق الرد بالمثل إلى الاقتصاص من البغاة والقتلة وشراب الدم ويؤكد باللامين الداخلتين على الفعلين( تسقي، تأخذ والنونات التوكيدية الثلاث الملحقة بالأفعال أن الثأر سيقع لا محالة:

من مبلغ الشر أن الخير يصرعه

والبغي أن قوى الأحرار تنتصرُ

يا شارب الدم مرت ليلة طرفا

ولن تمر ليـال بعـدها أُخــــــــر

لتسقين بتلك الكأس متــــرعة

سـماً وتكرع مـــــا فيها وتنفـطر

لنأخذنك أخــــذ الليث حصتـه

ونسحقـنك إن الـثـأر ينتظر([26])

إن هذا الصراع المرير الذي يسترخص فيه الأباة دماءهم تحد عنيد ينتهي إلى إحدى غايتين إما تأمين الحياة الحرة الكريمة أو نيل الخلود بالشهادة:

فإما حيـاة حـــــرة مستقيمـة

تليـــــــق بشعـب ذي كيان وسؤددِ

وإما ممات ينتهي الجهد عنـده

فتعذر فاختر أي ثوبيك ترتدي([27])

إن الحياة الحرة التي يناضل الجواهري من اجلها ويحرض الجماهير على صنعها متعذرة الولادة ما لم تروها دماء الضحايا فبين الحياة الحرة والدماء صلة عضوية محكمة وعلاقة جدلية رابطة حتى لتستحيل هذه العلاقة بينهما ـ عند الشاعر ـ لازمة توأمية لا تقبل الانفصام:

فالثكل والعيش السوي سوية

ودم الضحايا والحياة توأم([28])

فالقتال بين المظلوم وظالميه سجال ولامعنى هنا للسلم إذا كان شعاراً موهوماً يقترف في ظله المزيد من المآثم وحين يكون السلم أفتك من الحرب نفسها فالحرب أحمد:

كفرت بالسلم من بعد الجنوح له

فقد وهت حجـج منه وأعـــذارُ

وقد ربـت في ظــــــــلال منـه مأثمة

واستكـلبت فيه أضـباع وأنمــار

شر من الحرب سلـــــم خادع مـذق

في الوعد عي وفي الإيعاد مهذار([29])

وقد أثبتت التجارب الحياتية المعاشة والوقائع الملموسة أن ملاينة الطغاة تجلب ضرراً مضاعفاً وجوراً أشنع فقد انطوت نفوسهم على الطبع الغليظ والبطر المسرف:

إن الطغاة إذا لاينتهم بطروا

مثل الصغار إذا دللتهم فسدوا([30])

وبوحي من نزعته المتحدية يدعو الشاعر إلى مخاشنة أولئك الطغاة بجأش رابط وجنان ثابت لا يوافيه خوف ولا تطوف بساحته مصانعة، وآية ذلك استفهامه الإنكاري المكرر وهو يخاطب نفسه بقوله:

أ أنت تخاف من أحدٍ

أ أنت مصانع أحدا ؟([31])

وشرط في المتحدي أن يصبر حتى تحين ساعة الانقضاض وينتصف المضامون من مصادري إرادتهم، فلا ضجر على الرغم من جسامة العبء وثقل الوزن:

الصامدون على وعورة دربهم

ما مسهم ضجر ولا إعياء([32])

والصبر لدى الشاعر صبران صبر المستشرف المتطلع الذي يوجب الثناء ويحمل على الإكبار وصبر العاجز المتقاعس الذي ينقلب صبره سبة عليه ومعرة له، فلا كان ولا الصبر:

ذممت اصطبار العاجزيـن وراقني

على الضر صبر الواثب المتطلعِ

له ثـقة بالنـفــــــــــس أن ستـقوده

لحال يرجى خـيرها أو لمصــرع

وما الصبر بالأمر الـــيسير احتماله

وإن راح ملصوقاً به كل مدعي

ولا هـو بالشيء المشـــــــــــرف أهله

إذا لم تكن عقباه غير التوجع([33])

يعلن الجواهري مراراً أن طريق الكفاح وعر عسير لكن الصابر المتطلع يجتازه بصلابة عزمه دون أن يلهج بالشكوى لأن الشكوى ضعف والضعف ينافي التحدي:

حسب الكريم من الأذى إحجامه

حتى عن الشكوى من الإيذاء([34])

ولتلك العلة يحارب الضراعة ويرفض البكاء والبكائين:

ساءلت نفسي لا أريد جوابها

أنا أمقت الضراع والبكاء([35])

وتطبيقاً لفكرته تلك يأبى أن يكون شاعراً راثياً يبكي الخالدين بدمع هتون، فالخالدون أحياء وما بالأحياء حاجة إلى رثاء أو إلى من يمطرهم بدموع سواكب، قال لمناسبة وفاة عبد الناصر:

أكبرت يومك أن يكون رثاء

الخالدون عهدتهم أحياء([36])

وشاعرنا واجد لذته فيما يجره عليه هذا التحدي من الأذى والنحس:

ولولا قلوب تحسس الأذى

لما عرف اللذة العاشقونا([37])

وتطالعنا صورة من صور التحدي في شعر الجواهري إذ يصر على ان يكون في قلب الأحداث وان يلازم جماهيره ولا يحلو له ان يحيا في غير بلاده بين أكناف النعمة وحده وبلاده تلفها الأزمات فكأنه يرى في انفراده بالمسرة ضرباً من التهاون في قضايا شعبه وتنصلاً عن منهجه المصطفى لذا تنزع نفسه نحو بلاده ليعانق حر أحداثها ويواصل الشوط على دروب شائكة ووجهته مطلع الشمس:

وما سرني في البعد حال تحسنتْ

بلاديَ أشهـى لي وإن ساءت الحالُ

أحب حصاها وهو جمر مؤجج

وأهوى ثراها وهو شوك وأدغال([38])

بيد أن الجواهري الذي كان على علاقة حميمة مع مجتمعه سرعان ما صير تلك العلاقة تمرداً عليه في أثر عثرات نفسية حادة بينه وبين مجتمعه الذي رضي بالخنوع وأذعن لمشيئة الحكام العتاة وترك الشاعر وحده في حومة المعاناة، يهيب به فلا يلتفت إليه أحد فإذا به يزيح الستار عن هذه الحال غير المألوفة من تجربته بسيل من الفعل (أطبق) في قوله:

أطبق دجى، أطبـق ضـــــباب

أطبـق جـهاماً يــــــــــا سـحاب

أطبق دخان مـن الضميـــــــــ

ـرِ محـرقاً، أطبق عــــــــذاب

…………………

…………………

أطبـق عـلــــــــــى مـتبلـديـ

ـنَ شكا خـمولهم الذبـــــــــاب

لـم يعـرفوا لــــــــون السـما

ءِ لفـرط ما انحنت الـرقــــاب

ولفرط مــــــــا ديـست رؤو

سـهم كـما ديـس التــــــــــراب

أطبـق عـلى هـــــــــذي المسو

خِ تعاف عيشتها الكــــــلاب([39])

Pages