You are here

قراءة كتاب آثار الوثاق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
آثار الوثاق

آثار الوثاق

كتاب " آثار الوثاق " ، تأليف جليل حسن محمد ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

فالحب الكبيـر تسهـل مـن أجلـه الصعـاب، وتـصغر إزاء رفعته المتاعب والأهوال، وإن الاستبدال المكاني لا يوهن من سلطان هذا الحب، ولا يخمد جذوته، لأن خارطة الوطن يرسمها القلب بما فيه من الحب، فالوطن يكون حيث ينبض بحبه القلب لا حيث ينتقل الجسد، وعلى هذا محال ـ عند الجواهري ـ أن يكون البلد المنزوح إليه بديلاً عن بلده المنزوح عنه:

ولـستُ ببـائعٍ أرضي بأرضٍ وإن لـــــم ألـقَ فـيهـا مـا يسرُّ

ومن لم يرضَ موطـنه مـقرّاً من الـدنيا فـليس لـه مقرُّ([71])

فلا بلاد تسد مسد بلاده، فهي في القلب والضمير لكن الظلم الذي يسودها، والكبت الذي يخيم عليها يأباهما فكر الشاعر الداعي إلى الحرية والعدل، وما غربته إلا عاقبة من عواقب تلك الأفكار، وما هو إلا ضحية من ضحايا الاستبداد الجائر:

أنا من تـلكم الضحايا رمتْ بي فـكرةٌ حـرّةٌ وراء الحـدودِ

لـــم أُطِقْ كتمها وأعـلم كلَّ الـ ـعلم أنّـي بها أحزُّ وريدي([72])

فالشاعر الحر حين يكبل بأغلال العبودية يضيق بالوطن ذرعاً حتى يستحيل وطنه في مثل هذه الحال سجناً يزج فيه من لا جريرة له سوى العُلى والرفعة:

كـأنّ بلاد الـحرِّ سجنٌ لمجرمٍ وما جُرْمُـهُ إلاّ العُلى والترفّعُ([73])

وليس من شيم العزيز الأبي أن يرضى بالذل أو أن يبيت على الضيم ولو كان الأمر غير ذلك لهان احتماله والصبر عليه، أما المذلة فلا يرضخ لها إلا الخانع الوضيع:

يُـطاقُ تقلُّبُ الأيّـامِ فـينا وأمـا أن نذلّ فـلا يُطاقُ([74])

ولا ينكل العزيز عن رفض الذل ما يقدم له من إغراءٍ ويوفر له من أسباب الترف والدعة وهو لهذا يؤثر الغربة وسوء الحال على البقاء في الوطن مسلوب الإرادة محفوفاً بالذل:

والله لـــــو أُوهَبُ الـدنيا بأَجمعها ما بِعتُ عـــــزي بذلّ المُترف البطِرِ

قـالوا يظنون بي شيئاً من الصِغَرِ فقلتُ فيهم وبي شيءٌ من الصَّعَرِ([75])

وهنا يحتدم التنازع في داخله بين أن يستجيب لهوى نفسه التي تلح عليه في البقاء بين أكناف الوطن أو أن يستجيب لداعي الإباء فيغادر الوطن ليعيش بعيداً عنه ملتاع القلب طعين النفس ولكن بقامة شامخة وهامة مرفوعة، فالصراع الناشب في نفسه والمعبر عنه بالتضاد (يجاذب قلبي، ويأبى المقام) يتمخض عنه في النهاية الانتصار للشموخ والانحياز للإباء مع الإبقاء على محبة الوطن وإن كان ذلك في المغترب :

أُحـب بـــلاديَ لـو لـم أخَـفْ بـهــا شرَّ ذي الغدرة الأشـرسِ

يـجاذب قـلبـي إليـها الـهوى ويـأبـــى الـمقام بـها مَـعْـطِسي

جَـفَوني و لا ذنـب إلا الإبـاءُ وإن طـاب من بينهم مغرسي([76])

فلا مناص من الغربة في ظل وطن يستحوذ عليه الذل، بيد أنه سيبقى الأمل المرتجى الذي بتحقيقه يلتئم الشمل المشتت والملتقى الحبيب الذي على أديمه يوافي المرء مفارقيه من أهل وخلان:

مَـنْ لناءٍ عاف أهـلاً و صـحـابـاً و ديـارا

تـَخِذَ الغـربـة داراً إذ رأى الـذلّ إسـارا([77])

ويتوفر الجـواهري على رسم صورة لواقع بلاده هذا الواقع الذي يحمل أبناء البلاد حملاً على الرحيل، والصورة كما تعبر عن نفسها قاتمة مؤلمة تبعث على الأسى والحزن، فالصالحون في البلاد غرباء عنها، والسراق فيها ناشطون، والأشرار على تقويض أركانها منهمكون، فقد غدت هذه البلاد مرتعاً خصباً لأولي الرجس والدناءة، وعذاباً جاحماً لذوي الطهر والفضل، طائفة كبيرة من الصور أو صورة كبيرة تكثر فيها التفاصيل عبر إيراد الشيء وما يقاطعه أو بالأحرى عبر صدم الفاضل الغائب الذي يطلب بالمرذول السائد الذي يشجب، فالبلاد للسراق والصالحون فيها محرومون، وهي جنة للرجس وعذاب للزاكي، وخيارهم بها خطأ والأرذلون صواب، ويستوطنها البغاث (رمز الهوان والضعف)، ولا مكان فيها للنسور (رمز الشموخ والسمو) والجواهري لا تطاوعه نفسه على التكيف مع هذا الواقع المتردي، أو الاندماج فيه فيؤول به الأمر إلى تسفيهه والتمرد عليه، فينفر منه بالغربة:

ولكنني آسٍ لنـهـــــــبٍ مقـسَّمٍ وليـس بـــــه للـصالحينَ نـصابُ

وبيتٍ لسُـرَّاقٍ تـلوذُ بــــــركنهِ سبـاقٌ عـلـــــى تـهديمهِ وغـلابُ

مجافية أحـكامه فـهْوَ جنَّـــــــةٌ لرجْـسٍ وللزاكي لظىً وعـذابُ

ومـعكوسة حتى كأنّ خيـــــاره بـه خـطأٌ .. والأرذلون صوابُ

أطاحَتْ بأعشاشِ النسور بغاثُهُ وحلَّ بـه خيــرَ الـوكورِ غرابُ([78])

ولكن أيعذر الجواهري على هذا الإيثار إيثار الغربة على البقاء في أرض الوطن، ألا يعاب على ذلك؟ يرى الجواهري أن لا عيب في ذلك ما دام المرء يأبى مجاورة الإسفاف، ونفسه تربأ عن معاشرة المسفين:

يا غـريبَ الـدارِ يا مَنْ ضَـرَبَ الـبيدَ قـمـارا

لـيسَ عاراً أن تُـوَلِّـي مِـنْ مُـسِفِّينَ فِـرارا([79])

بيد أن الفرار قد وقع في أعقاب مواجهات جريئة ،وتحديات صعبة لهؤلاء المسفين الأراذل، فهو لم يغازل هؤلاء ولم يذعن لهم حتى في أوان ضعفه وقلة نصرائه:

يـا سـبوحاً عـانقَ المـو جَـةَ مـدَّاً وانحــسارا

لـم يُـغازلْ ساحلاً منـ ـها ولا خاف الفرارا([80])

إن هذه النصوص برمتها تؤكد أن برم الشاعر بسوء الأوضاع والعوامل الضاغطة قد ألجأه إلى النأي عن الديار والأهل والصحب ولكن على مضض منه .

Pages