You are here

قراءة كتاب آثار الوثاق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
آثار الوثاق

آثار الوثاق

كتاب " آثار الوثاق " ، تأليف جليل حسن محمد ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

إن ما يدعو إليه الشاعر عمل متواصل لا يقف عند حد ولا يحول دونه تقدم العمر مادام في النفس رمق وفي القوس منزع:

يا شبـاب الغــــــــد إنا فتيـة

مثـلكم فرقـنا في العمــــــر سنُّ

لم يزل في جـانحينا خافـق

لصروف الدهر ثبت مطمئن([54])

والشاعر لا يحفل بالدهر ولا يسوغ لأحد أن تصدر عنه نأمة شكوى لأن الشكوى من نوب الدهر أمارة ضعف وتخاذل تأباها عزائم المكافحين على درب الحياة:

عتبتُ وما لـي مــن معتـبِ

عـلى زمـن حُـوّل قُـــــــلّبِ

أ نلصـق بالدهر ما نـجتوي

ونختص نـحن بـما نـجتبي

كأن الذي جـاء بالمـخبـثات

غـيـــر الذي جـاء بالطـيب

وما الدهـر إلا أخـو حيدة

مُطــــلٍّ على شـرف يـرتبي

يسجـل معــــركة الكائنـات

مثـــــــل المسجـل في مـكتب

فـما للزمـان وكفّـي إذــــــا

قبضـت على حـمة العقرب

بنابي من قبل نـاب الـزمان

ومن قبـــل مـخلبه مـخلبي

دع الدهر يذهب على رسله

وسر أنت وحـدك في مذهب

ولا تـحتـفـل بكـتاباتــــــــــه

أرد أنت ما تشتهي يكتب([55])

وكلما ضايقه الدهر صب عليه جام غضبه وقاومه،ومعلوم أن الغضب (نتيجة لنوع من أنواع الهجوم الحاسم القوي على المصاعب والعراقيل التي تحول دون نيل الأهداف والغايات المرغوب فيها)([56]) ولكن كيف يغضب الجواهري؟

وكنت متى أغضبْ على الدهر أرتجلْ

مـحرقة الأبيات قـاذفـة جـمـــــــــرا

كشـأن زيـاد حين أُحــــــــــــرج صدره

وضُويقَ حتى قـال خطبته البترا([57])

إن تجاوز الماضي والتحرر من عبوديته والنهوض بالحاضر وإملاء أناته جزء من تحديه للزمن إيمانا منه بأن فوات أجزاء من الزمن فوات لفرص من التقدم:

وسـوف يبين إذا ما انجـلى

غد ، من يـجد ، ومن يلعبُ

فسـوف يدور (سـاعاتكم)

بـما لا يسركم (عقرب)([58])

إن مراجعة الماضي وإخضاعه للنقد كفيلان بتسهيل مسؤوليات الحاضر في التجديد بقصد الانتماء إلى المستقبل بحكمة أعلى وجهد أقل ووقت أقصر:

تذكروا أمـس واستـوحوا مساوئه

فقـد تكـون لكـــــــــــم في طيـه عبـرُ

مـدوا جـماجـمكم جسراً إلى أمــــل

تحاولون، وشقوا الدرب واختصروا([59])

ولا يأتي هذا التجدد إلا بالثورة على القديم البالي والتمرد على مناحي العقم في الأمة:

لَوَ انَّ مقاليد الجماهير في يدي

سـلكتُ بأوطاني سبيل التمردِ

إذن علمت أن لا حـياة لأمــــــة

تـحاول أن تحيا بغير التجدد([60])

تلك هي القوى التي تحداها الجواهري وتمرد عليها ويبدو من خلال النصوص التي قامت عليها هذه الدراسة أن معجم التحدي في هذه النصوص زاخر بطوائف من الألفاظ التي أجيد انتقاؤها وأحسن استخدامها لعقد الصور المعبرة بدقة عن مفهوم التحدي، فمن الألفاظ التي أدت إلى معاني النفاذ والاندفاع( الاجتياز، الاقتحام، الولوج) أما الألفاظ التي تحمل دلالة المقاومة فمثل( يناجز، ند، وجهاً لوجه).

وحين يعمد إلى كشف مواقف التماسك في فعل التحدي يجد مبتغاه في الألفاظ من مثل(الجلد، الصخر، الأجشب) أما المواضع التي ينبئ فيها عن تضاؤل الخصوم أمامه واعتلائه عليهم فيختار لها مفردات تناسب مقتضى الحال على شاكلة (أطأ، أركب، الواثب، متجبر) وإذا أراد أن يطلع متلقيه على الانفعالات التي تعتري المتحدي فـ (الغضب، والجمر، واللهب، والمحرقة) من مقوماته الأثيرة في البناء، وللموانع، المعترضة سبيل التحدي ألفاظ مخصوصة يلقانا منها (الصعب، موعر، ملغم) ويتوفر على ألفاظ من مثل( مطرقتي، أشد،أقطع، أفل للضرب، وأبوا للتمرد) لحالات الرفض، و(أصمد، غرست، غير مكترث) للثبات وتواصل العزيمة، وفضلاً عن ذلك فإن اسم التفضيل له حضوره في نصوص التحدي وكأن الشاعر بهذا الاستخدام يهدف إلى نفي صفات التحدي عن أخصامه ويقرب نفسه ومن معه من مطلق تلك الصفات على سبيل المبالغة فهناك(الاوجع، الابشع،أحرى،ألذ)، ولا يغفل ما تؤديه المؤكدات من مهام في قطع الشك من فعل التحدي باليقين لاسيما إذا اجتمع أكثر من مؤكد واحد في القول كاجتماع ا للام الواقعة في جواب القسم المحذوف ونون التوكيد الثقيلة على نحو ما يتضح ذلك في (لنسقين، لنأخذن) وسواهما مما يثري هذا الجانب ويعمقه.

لقد أوتي الجواهري مقدرة عالية منحته الدقة في الوصف والحسن في التصوير والإجادة في التركيب الشعري وبناء علاقات جدلية بين موضوع التمرد والفن الأسر الذي يفيض جمالاً ويشع توهجاً، وقلما يحالف التوفيق شاعراً يحاول الجمع بين طرفي هذه المعادلة، بيد أن الجواهري ذا الطبع الموهوب نجح نجاحاً كبيراً في هذا الاتجاه وكأنه كان يحرص على جمع ما تفرق من ملامح بين الرصافي الشاعر المتمرد المبتعد عن روعة الفن وشوقي الشاعر الفنان الذي أحجم عن التمرد وتعامى عن الأوضاع.([61])

وما تحقق ذلك للجواهري لولا الذكاء واللسان وقوة الحجة وسطوع البيان ومعايشة الأحداث فرسم للمتحدي صورة بطولية أشبه ما تكون بالصورة التي رسمها هوميروس لأبطال طروادة العظام.

إن طريق التحدي الذي اختاره الجواهري طريق صعب عسير لا يسلكه إلا الجلد الصبور الذي لا ينصاع لسلطان الرهبة ولا يلتفت لداعية الإغراء، فإيمان الشاعر بحتمية انتصاره الإرادة الحرة حبب إليه الفقر ووثق آصرته بالشعب وأهداه إلى النضال الدؤوب من أجل غد وضاء لا أثر فيه للقتامة والظلم وهو من أجل ذلك يعلن عن الحاجة الماسة إلى القوة لحماية الإنسان المستلب إذ لا يمكن لهذا الإنسان أن ينال حظه من الحياة والأزهار دونما قوة تحميه وترعاه فقسوة الأعداء يجب أن تقابل بقسوة مماثلة أو أعنف منها لأن المناضل الذي يتلقى ضربات أعداء الشعب ولا يرفع يده متحدياً لا يمكن أن يبلغ الغاية التي إليها يسعى، فالمهم الأول في المتحدي أن لا يدع ثغرة للبغاة ينفذون من خلالها إلى الساحة لنيل مآرب شريرة، ولا يهم بعد ذلك كيف تكون العاقبة فهي إما أمان تنال أو موت يحول دونها ومن هنا لا يرى الجواهري في السلم شيئاً ذا قيمة بل إنه ليكفر به لأنه يرى فيه ستاراً ترتكب خلفه ألوان المآثم وتنتهك في ظله قداسة الإنسان، وفضلاً عن ذلك فإن الجواهري يخرج من دائرة تحديه لكل المتشبثين بالصبر العاجز والمجهشين بالبكاء العاثر والقانعين بالشكوى التي تذهب مع الريح هباء فللعذاب عند الجواهري لذة تضاهي لذة الحب لدى العاشقين فهو واجد لذته في هذا العذاب المحبوب الذي يتخذه جسراً يعبر من فوقه إلى ضفاف البهجة أما الموت الذي استهان به الشاعر وتحداه فذو صلة بمحور تحديه للجائرين الطغاة فهؤلاء يملكون من وسائل التدمير والتعذيب والبطش ضروباً وهم لا يتورعون لحظة في استخدامها، ومن هنا يضع الجواهري في حسبانه أولا وقبل كل شيء أن الموت في انتظاره في كل آن وهو لا يقدر على فعل التحدي إذا كانت فكرة الموت الرهيب قد استحوذت عليه لذا يضع الجواهري نفسه في مواجهة الموت عبر حرب ضروس لا هوادة فيها يقارعه فيها جهداً بجهد غير مبالٍ بالعاقبة فلا قيمة لحياة يجاورها الذل والمسكنة أما الحياة الحرة الكريمة فتغريه بالموت مراراً، كما أن الجواهري في إطار تحديه يتمرد على الدهر ولا يستسلم له وآية ذلك رفضه للقديم البالي وتجاوزه الحاضر الراهن تطلعاً إلى مستقبل آت يليق به وينبئ عن عظم طاقاته التي يجعل بها الزمن طوع إرادة لا معطلاً لقواه.

Pages