أنت هنا

قراءة كتاب أحلام الياسمين في زمن الرخام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحلام الياسمين في زمن الرخام

أحلام الياسمين في زمن الرخام

تمزج رواية الدكتورة آية عبدالله الأسمر "أحلام الياسمين في زمن الرخام"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، بين الحب والمشاعر الانسانية والواقع السياسي والاجتماعي في عالمنا العربي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6
* لأن والد شيماء هو والد شيماء، ووالدك هو والدك، ثم إنك تبالغين في ظلمه، فوالدك أيضًا أرسلك إلى هنا لتحصلي على شهادة علمية جيدة من جامعة جيدة، أعلم أن باستطاعته إرسالك لدراسة الهندسة التي تريدين في أي مكان من العالم، ولكنها طريقته في التفكير هي التي منعته، وهذا من حقه، وليس من حقك أنت أن تملي على والدك ما ينبغي عليه فعله، نهجه في الحياة، وطريقته في التفكير وكيفية تعاطيه مع الأمور، هذه يا أحلام نتاج سنوات طويلة من التربية والتنشئة، والحياة، والخبرة تترسب في أعماق الإنسان حتى تصبح جزءًا منه، ونحن نعلم أنها في بعض الأحيان ليست جميعها صائبة وصالحة للاستخدام، لكن عملية تجاهلها أو استبدالها بمفاهيم ومعتقدات وأفكار جديدة تتناسب مع الفترة الزمنية المعيشة هذه عملية صعبة وشاقة؛ لكونها تمثل دفن جزء حي من أعماقنا، وانتزاع خلايا موجودة فعليًا في أدمغتنا لنزرع مكانها خلايا فكرية جديدة، وليس كل البشر قادرين على مثل هذا التغيير، والد شيماء الذي تتحدثين عنه هو نفسه، وكما حدثتني فيما مضى، أنهى دراسته الجامعية بصعوبة بالغة نظرًا للأعمال الشاقة التي كان عليه القيام بها للحصول على الطعام وأجرة السكن ومصروف المواصلات وثمن تصوير الكتب، ألست من أخبرتني أن والده رفض التحاقه بالجامعة وأمره بمساعدته هو وأخيه في تجارتهما؟ أرأيت كيف تتشابك خيوط الحياة بطريقة مذهلة معجزة؟ فطفولة والد شيماء القاسية وظروف حياته الصعبة والمشقة الكبيرة التي جابهها ليحصل على شهادة جامعية، ومحاولة والده حرمانه من حلم كان يدغدغ خياله منذ نعومة أظفاره، وشعوره هو بهذا الظلم وخوفه على حلمه الذي حاولوا أن يسرقوا نجمه من ليل أحلامه، كل هذه المعاناة عادت عليه بصورة إيجابية، وانعكست على شخصه ونهجه وفكره بطريقة ناجعة طورته، ونمّت فيه المقدرة على الإحساس بالآخرين وباحتياجاتهم ومعاناتهم، متجنبًا بذلك الظلم والقسوة والتعسف، ونابذًا الأفكار العتيقة الجاهلة الهدامة، بل إن والد شيماء استطاع أن يمزق شرنقة زمن والده وزمنه هو أيضًا ليُحلّق بفكر واعٍ على أجنحة مستقبل أبنائه بما يلزم هذا المستقبل من متطلبات وبما يستوعب من متغيرات، ليدور بعقل أسرع من عجلة الزمن· ولكن يا أحلام هذا مثال فريد، وهذه شخصية حياتية نادرة الوجود، لأنَّها تتطلب قدرة نفسية هائلة، وعمقًا فكريًا غنيًا، واستعدادًا شخصيًا فطريًا، وهذا استعداد لا يوجد لدى البشر جميعهم، بل من المستحيل وجوده لديهم جميعًا، وإلا لما تفاوت الإخوة الأشقاء في طباعهم وأخلاقهم وسلوكهم وتصرفاتهم واتجاهاتهم، بالرغم من أنهم محاطون ببيئة واحدة ومعرضون لظروف فكرية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية متشابهة· إن استعداداتنا الفطرية، وطبائعنا الشخصية، وجيناتنا الوراثية، وأقدارنا وألواحنا المكتوبة، كل هذا يشكل جزءًا رئيسًا وهامًا منا، بل هو محور ذواتنا وسبب تفاوت ردود أفعالنا، وبه تتحدد أطر مستقبلنا، ومن خلاله نكون من نكون·
 
آه
 
تنهدت أحلام بعينين أنطفأ اشتعالهما بماء كلمات سوسن وقالت:
 
أما والدي فاستعداداته ضئيلة وعمقه ضحل، وشخصه لم يتمكن من استيعاب الزمن والأحداث والمتغيرات، لم يحاول اقتلاع جذوره من تربة جدباء قاحلة بحثًا عن الخصوبة والنماء، لهذا كرر معاناته معنا بالكيفية نفسها، وطبق نظرية والده في التعامل مع زوجته وأبنائه بحذافيرها· لم يكن بمقدوره أن يُشرّح طفولته إلى أجزاء حانية ممتعة مفرحة لينثر شذاها في بساتين طفولتنا، وأجزاء أخرى قاسية جائرة مؤلمة يجنب عصافير طفولتنا مرارتها، بل على العكس، لقد أصر ودون وعي منه، على أن نتجرع المرار الذي تجرعه هو، أصر دون أن يدري أن يمارس التسلط ذاته الذي مارسه والده عليه، من قبل، بالنهج نفسه وبالكيفية نفسها وبالعقلية ذاتها، أُدرك أنه ربما لا يقصد الإساءة إلينا نحن أبناءه بقصد الإساءة، ولكني أدرك أيضًا أنه لا ذنب لي في كل هذا·
 
* وتدركين أيضًا أنه كان قادرًا على أن يحرمك من الدراسة الجامعية، مكتفيًا بشهادة الثانوية العامة، ليسجنك بزواج ترتمين خلف قضبانه عارية حتى من هذه الشهادة التي لا تريدين، ألم يفعل والده ببناته، عماتك، هكذا؟ إذًا فوالدك لم يقف عاجزًا محنطًا في توابيت التعفن كما تدّعين· لقد حاول، لا بد لك من الاعتراف بهذا، لا تكوني جاحدة يا أحلام، اغفري له إساءته غير المقصودة، سامحيه على كل الألم الذي سببه لك بشكل خاص ولعائلتك بشكل عام، اعذريه، فلم يكن بمقدوره أن يكون أفضل مما هو عليه، ثم إنه والدك، وحبه واحترامه واجبٌ عليك·
 
صمتت أحلام· لم تقنعها جمل سوسن الأخيرة، وأحست باستحالة تحقق ما طلبته منها· أحست أحلام أن سوسن لأول مرة في حياتها تهذي وتتحدث برومانسية وخيالية بعيدتين كل البعد عن الواقع، لكنها لا تلومها، فهي لا تعلم الحقيقة الكاملة، ولا تدري أن الجرح أعمق من الكلية والجامعة، إنه جرح ممتد بطول عمرها، ووجعه أشد من أن تُسكّنه الكلمات والغفران، جرح نازف ملتهب لوّن بصديده دماءها وسمم خلاياها وشوّه أعماقها وسوّد أفكارها·
 
جرح لا تداويه المواساة يا سوسن فكرت أحلام·
 
واستمر صمتها، فهي تدرك أن بكاءها وحزنها وكراهيتها للمادة لن يُغيّروا جميعًا من موعد الامتحان غدًا، كما تدرك أيضًا أنها أضعف من أن تهزم· فمن الصعب جدًا عليها، وهي الإنسانة التي اعتادت ركوب المجد والانتصار، أن تنزلق في وادي الهزيمة·
 
غريبة جدًا هي هذه النفس البشرية، تمتلك قدرة هائلة على النهوض بعد السقوط، والاستمرار بعد التعثر، والإصرار على النجاح بعد الفشل، بشجاعة يشار إليها بالبنان· حتى إذا ما حققت الانتصارات واحدًا تلو الآخر، وتدفقت إنجازاتها وفاضت، نجِدُها ترفض استقبال أي طيف للفشل، خائفة من مجرد فكرة التعثر والسقوط، عاجزة عن مواجهة الألم وكأنها لم تعرفه يومًا، وكأنه لم يكن دافعها الوحيد للنهوض والاستمرار والنجاح·
 
لم تدر سوسن ما الذي يدور في ذهن أحلام في تلك اللحظات بالتحديد، لكنها كانت تعلم أن ثورتها قد هدأت، وأنها قادرة على متابعة الاستذكار الآن، بعد أن نظّفت قلبها من كل الأوجاع والأحقاد والأسخاط المُكوّمة على أرصفته، فقبلتها على خدها واستأذنتها لتذهب لصلاة المغرب قبل فوات وقتها، وانصرفت· نهضت أحلام من مكانها رافعة يديها في الهواء متثائبة، ونظرت إلى النافذة خلفها ففوجئت بسرايا الليل تقبل واحدة تلو الأخرى، وقد اطمأنت لزوال إمبراطورية النهار وسقوط عرش الشمس، رافعة نجومها اعترافًا واضحًا باحتلالها المنطقة السماوية·
 
فأدركت أحلام أن الوقت تأخر وأن آذان العشاء سيداهمها خلال تأديتها لصلاة المغرب، لهذا لم تكن على عجلة من أمرها مثل سوسن بل دخلت المطبخ وأخذت تعد العشاء لهما، ثم بعد ذلك صلت صلاتي المغرب والعشاء معًا، ودعت الله أن يوفقها في امتحان الغد، وأن يغفر لها تقصيرها، ويلهمها الصبر ويمنحها القوة والعزيمة والإيمان كي تتمكن من إتمام هذا العام بتفوق مثل كل عام، شاكرة له فضله عليها، معترفة بجحودها نادمة عليه·

الصفحات