أنت هنا

قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حياتي مع بيكاسو

حياتي مع بيكاسو

كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 9

مع استمرار حضوري المنتظم صباحاً في شارع (دو غراند أوغسطين)، كان (سابارتيه) يزداد وجوماً، وحين كنت ذاتصباح مع بيكاسو في مشغل الرسم، ولم يكن أحد غيره معنا، كان من الواضح أنه وجد دبلوماسيته قد طال أمدها،وخامرني الشك بأنّهما كانا يتحدثان عني قبل أن أصل في ذلك الصباح. ولكن بعد دقائق قليلة، قال (سابارتيه) وكأنهيضيف رأياً آخر إلى حديث كان يجري فعلاً لبعض الوقت: كل ذلك يبدو لي في غاية السوء يا بابلو، وستكون النهاية سيئة،فأنا أعرفك كما ترى، فضلاً عن أنها تغير من ثيابها بكثرة، وتلك علامة سيئة.كان ذلك حقيقة، فقبل أسبوع أو أسبوعين تغيرت مشاعر أمي، وقامت بتهريب بعض ثيابي،وجلبتها لي إلى بيت جدتي،وأعتقد بأنني كنت أستخدمها أقصى استخدام، بعد أن أمضيت أسابيع أرتدي فيها الزي ذاته كل يوم.قال بيكاسو: اهتم بعملك يا (سابارتيه)، إنك لا تفهم شيئاً.، ولا تملك الذكاء الكافي لتدرك أن هذه الفتاة تسير على حبلمشدود، وتغرق في نوم عميق فهل تريد إيقاظها؟ هل تريدها أن تسقط؟ حسبك أنك لا تفهمنا نحن السائرين في النوم، وإنما لا تفهمه أيضاً هو حقيقة أني أكنّ وداً لهذه الفتاة، ولو كانت صبياً لما قلل ذلك من ودي لها. إنها في الواقع تشبه رامبوبعض الشيء، فاحتفظ بأفكارك الكئيبة الشريرة لنفسك، ومن الأفضل لك أن تنـزل إلى الأسفل وتقوم بعمل ما.بدا سابارتيه غير مقتنع، نفث حسرة كبيرة ثم نزل إلى الأسفل، وهز بيكاسو رأسه.قال: أي ثروة من اللافهم هذا؟ إنك تقذفين كرة في الحياة أملاً في أن تصل إلى جدار ما، فتقفز ثم تعود من أجل أن تلقى
ثانية، وتأملين أن يوفر لك الأصدقاء مثل هذا الجدار، ولكنهم لا يكادون يكونون أي جدار، وأنهم مثل شراشف سريرعتيقة مبللة، وحين تقذفين بتلك الكرة، فتضرب الشراشف المبللة، فإنها تسقط فقط، ولا ترجع أبداً. وإذ راح ينظر إليّ منزاوية عينه قال: أعتقد بأنني سأموت دون أن أعشق. فضحكت وقلت: ليس من المجدي أن تحكم رأيك الآن، إنك لم تصلإلى هناك بعد. غدا بيكاسو هادئاً لوهلة ثم قال: هل تذكرين حين ذهبنا نتسلق الدرج الملتوي ذاهبين إلى الغابة حيث كان
بإمكاننا أن نتطلع من هناك إلى قمم السطوح؟ قلت له إنني أتذكر فقال: ثمة شيء أوده كثيراً، وهو أن تبقي هناك ابتداء منالآن، فوق في الغابة، اذهبي فقط واختفي كلياً بحيث لا يعرف أحد أنك كنت هنا. سأجلب لك الطعام مرتين في اليوم،وبوسعك أن تعملي هناك بكل سكون، وسيكون لي سر في حياتي لا يستطيع أي أحد أن ينتزعه مني. قد نخرج في الليلمعاً، نتجول حيثما نريد. إنك لا تحبين زحمة الناس، وستكونين في منتهى السعادة لأنه لن يكون عليك أن تهتمي ببقية العالم
ولا تهتمي إلا بشأني. قلت: إنني أعتقد أنها فكرة طيبة، غير أنه أخذ يقلب الفكرة وقال بعد ذلك: لا أدري إن كانت فكرةطيبة أم لا، لأنها ملزمة لي أيضاً، فإذا كنت موافقة على أن لا يكون لديك المزيد من الحرية، فإن ذلك يعني أنه لـن يكونلي المزيد منها أيضاً.كان بوسعي أن أرى أنه من الشاق عليه أن يتخلى عن الفكرة أيضاً، واسترسل قائلاً: ومع ذلك فإنه لأمر جميل أن تعيشيهنا من غير أن تري أي إنسان آخر سواي، تكتبين أو ترسمين، وسأعطيك كل المواد التي تحتاجينها من أجل عملك،وسيكون بيننا ذلك السر نتقاسمه. قد نخرج في الظلام فقط، ونذهب فقط إلى أحياء لا يمكن أن نلقى فيها أشخاصاً نعرفهم.
لا بد لي أن أعترف، بأن الفكرة بدت لي في تلك اللحظة جذابة جداً، بوجهها الشعري في الأقل: أن أعيش وحيدة هناك فيالأعلى معزولة عن جميع الناس الذين أرغب تجنبهم، وأن أكون على اتصال مع إنسان واحد يهمني أمره إلى حد كبير،إنسان كان من الممكن أن يغنيني في ذلك الوقت. عرفت أن العشق لم يكن قد حان وقته، ولكنني عرفت أيضاً بأن هناكإعجاباً متبادلاً قوياً جداً بيننا، وحاجة إلى أن نكون معاً.حين غادرت في ذلك الصباح، قال لي بيكاسو: إنني سئمتُ، كما سئمتِ أنت حتماً، من الاستماع إلى (سابارتيه) متبرماً منوجودك هنا في الصباحات، ولأنه لا يكون موجوداً قط بعد الغداء، فلماذا لا تأتين لزيارتي بعد الظهر من الآن فصاعداً.؟ .قلت إنني أحبذ ذلك، ولكن لا تتوقع مني قرارًا في الوقت الحاضر بشأن موضوع (الغابة)، فقد كنا في فبراير، وقد خطرلي أنني قد أجد المكان هناك في الأعلى تحت إفريز السطح، بارداً بعض الشيء.قال: موافق، ولدي ما هو أفضل لشهر فبراير، بما أنه لا يسمح لأحد بالدخول هنا بعد الظهر، وبما أنني لا أرد حتى علىالهاتف إذا رن، فإننا سنكون بمنأى تماماً عن أي إزعاج، وسأعطيك دروساً في فن الحفر engraving، فهل ترغبين
بذلك؟ قلت: أعتقد بأنني راغبة.قبل زيارتي الأُولى بعد الظهر إلى شارع (دو غراند أوغسطين)، اتصلت ببيكاسو هاتفياً في الصباح لأحدد موعد زيارتي،وجئت في الموعد مرتدية ثوباً من المخمل الأسود تزينه ياقة عالية من الدانتيل الأبيض، وكان شعري الأحمر الداكنمرفوعاً بتسريحة كنت قد اقتبستها من لوحة (إنفانتا) لفيلاسكيزVelasquez. أدخلني بيكاسو وفغر فاه ثم تساءل: هل هذالباس مناسب ترتدينه وأنت مقبلة على تعلم فن الحفر؟قلت له كلا، ولكن بما أني كنت واثقة من أنه ليس لديه أية نية لتعليمي فن الحفر، فقد ارتديت الزي الذي بدا لي أنه يلائمالمناسبات الحقيقية، وبكلمات أخرى، قلت له إنّني كنت أحاول أن أبدو جميلة وحسب.رفع كفيه وقال: رباه! يا لجرأتك! إنك تفعلين كل ما باستطاعتك لتزيدي الأمور صعوبة، ألم يكن بإمكانك في الأقل أنتتظاهري بأنك فوجئت كما تفعل النساء عادة؟ إذا كنت لا تنخدعين بمراوغاتي فكيف سيتسنى لنا أن نمضي معاً. حينئذتوقف، وبدا عليه أنه كان يعيد النظر بانتقاده، ثم قال ببطء أشد: أنت محقة حقاً. هذه الطريقة أفضل. أقصد بعينين
مفتوحتين ولكنك تدركين أنك إذا كنت لا تريدين أي شيء غير الصدق - أي بلا مراوغات - فإنك لا تريدين أن يبقى لكأي شيء، ضوء النهار الواضح قاس إلى حد ما، أليس كذلك؟ ثم توقف وقفة قصيرة كما لو أنه أحس بعدم الثقة، وقال:سنرى، فلدينا الكثير من الوقت.تبعته إلى الغرفة الطويلة، حيث يعمل سابارتيه صباحاً، كانت الغرفة فارغة الآن ولكنها مبعثرة. ترك بيكاسو الغرفة لدقائقثم عاد يحمل محفظة كبيرة للصور (ألبوماً). نحّى جانباً أكوامًا من الأوراق والكتب المكدسة على المنضدة الطويلة في قلبالغرفة، ثم وضع المحفظة، وفتحها. كان في الداخل مجموعة سميكة من الرسوم المطبوعة.وقال: هل ترين؟ سنشرع أخيراً بتناول موضوع الحفر. هذه مجموعة من أعمال الحفر المنفذة على المعدن etching، إنهامائة طبعة كنت قد عملتها لـ (فولاردVollard) خلال سنوات الثلاثين.كان على رأس المجموعة ثلاث صور محفورة لوجوه مرسومة، اثنان منها بالألوان المتدرجة (أكواتنت aquatint)تصور تاجر الأعمال الفنية (إمبرواز فولارد). ضحك بيكاسو وقال: لم تحظ أجمل امرأة عاشت على الأرض بتصويرها،رسماً أو تخطيطاً أو حفراً بقدر ما حظي به (فولارد) من قبل سيزانCezanne، ورنوار Renoir، وروو Rouault،وبونار Bonnard، وفورين Forain. لقد رسمه كل واحد منهم، وأعتقد أن الكل أقبل على رسمه من باب التنافس، وكل
منهم كان يريد أن يصوره أفضل مما صوره الآخر. كان لذلك الرجل زهو امرأة، فقد صوره رينوار مثل مصارع ثيران،وهو في حقيقة الأمر قد سرقموضوعي، غير أن صورتي له، بالأسلوب التكعيبي، هي أفضل واحدة على الإطلاق.ثم انتقل إلى صورة أخرى لامرأة ذات شعر فاتح تجلس عارية وترتدي قبعة مغطاة بالزهور المرسومة، وأمامها تقفامرأة عارية مغطاة جزئياً بقماش، لها شعر داكن وعينان داكنتان. أشار إلى المرأة الواقفة، وقال: إليك، هذه أنت، ألا ترينذلك؟ هل تعرفين بأن قلة من الوجوه تسحرني دائمًا، ووجهك واحد من هذه الوجوه؟ ثم انتقل إلى صورة أخرىتظهر فيها امرأة عارية أخرى مغطاة جزئياً بقماش، وتقف إلى جانب رجل يمسك بيدها، وله ملامح غريبة. إنه رسام كماكان واضحاً، لأنه بدا وهو يحمل بيده الأخرى ملوانة (باليت palette) وفَراشٍ، كان رجلاً كث الشعر يرتدي قبعة مجعدةخشنة. قال: هل ترين هذا الشخص الشرس هنا، ذا الشعر المجعد والشارب؟ إنه (رامبرانت Rembrandt) وقد يكونبلزاك Balzac، لست واثقاً، إنه بين الاثنين كما أظن. أمر غير مهم حقاً، إنهما الشخصان الوحيدان اللذان يسحرانني منالناس، كل كائن بشري كما تعلمين هو مستعمرة كاملة.ثم قلّب بضع صور أخرى، كانت مليئة بأشكال رجال ملتحين، وآخرين حليقي الوجوه، وكذلك صور لمخلوقات أسطورية كالمينوتور والسنتور، وأشخاص يشبهون الوحوش، ونساء من كل صنف، تظهر الواحدة منهن عارية أو شبه عارية،ويظهرن كأنهن يؤدين مسرحية من قصص الأساطير الإغريقية.قال: تدور هذه الأحداث على جزيرة مرتفعة في البحر الأبيض المتوسط، مثل كريت، فهناك يعيش أعداد من المينوتور،على امتداد الساحل، وهم سادة الجزيرة الأغنياء، يعرفون أنهم وحوش، وأنهم يعيشون في كل مكان شأنهم شأن كلالمنمَّقين وهواة الثقافة. ذلك النوع من الوجوه التي تنضح برائحة الانحطاط، يسكنون بيوتًا مليئة بالأعمال الفنية للرسامينوالنحاتين المرموقين اليوم. وهم يحبون أن يُحاطوا بنساء جميلات، فيوعزون إلى صياد المنطقة ليبحث لهم هنا وهناك عنفتيات من الجزر المجاورة، وبعد أن يزول حر النهار، يأتون بالنحاتين وموديلاتهم لإقامة الحفلات المصحوبة بالموسيقى والرقص، ويحشو كل واحد منهم نفسه بالحلزونات البحرية والشمبانيا حتى تخمد الكآبة وتنتشي الغبطة، وفي تلك اللحظةتبدأ جلسات المجون.بعد ذلك تحول إلى صورة أخرى يظهر فيها المينوتور راكعاً على ركبتيه، وفارس محارب يصوب نحوه بالخنجر ضربة الرحمة، ومن خلف الحاجز تتلصص جمهرة من الوجوه معظمها لنساء يتطلعن إلى المشهد. قال بيكاسو: علمونا أنثيسيوس جاء وقتل المينوتور، ولكنه كان واحداً من كثيرين غيره. وذلك ما يحدث في كل يوم أحد، إذ يأتي شاب إغريقيمن البر الأكبر، وحين يقتل المينوتور، فإنه يسعد كل النساء، ولا سيما الكبيرات منهن. تعيش نساء المينوتور عيشة رغد،ولكنه يحكم بالرعب، لذلك يسعدهن مقتله.ثم قال بيكاسو، وقد بدأ يتحدث الآن بصوت أشد هدوءاً: إنه من غير الممكن للمينوتور أن يجد من تعشقه لذاته، وهو يدركذلك في الأقل، لأن عشقه أمر مخالف للمنطق كما يبدو له، لذلك فإنه يلجأ إلى إقامة الحفلات الماجنة. وهنا انتقل إلىصورة أخرى يظهر فيها المينوتور يتطلع إلى امرأة نائمة. قال: إنه يدرسها، محاولاً أن يقرأ أفكارها، ويحاول أن يستنتجعما إذا كانت تحبه لأنه وحش. ثم رفع رأسه ونظر إليّ وهو يقول: افالنساء غر يبات إلى هذا الحد كما تعرفين. وراحيتطلع إلى اللوحة ثانية، وقال: من الصعب معرفة ما إذا كان يرغب بإيقاظها أو قتلها.

الصفحات