أنت هنا

قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حياتي مع بيكاسو

حياتي مع بيكاسو

كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

وتحول إلى لوحة أخرى، فقال يكاد الرسامون يكونون بعيدين عن الواقع، انظري إلى هذه: أحدهم يأتيه بفتاة فماذا يرسم؟إنه يرسم خطاً، إنه لا يشخّص، ولكنّ الرسامين يعيشون في الأقل حياة أكثر نظامية من النحاتين. لاحظي أنه، حيثماوجدت حفلات ماجنة، توجد لحى. هؤلاء هم النحاتون : لحم دافئ في كف، وشمبانيا باردة في الكف الثانية. لا شك أن النحاتين شديدو الصلة بالواقع.وقلّب بضع صور أخرى من المجموعة، حتى جاء إلى امرأة عارية ذات شعر فاتح تستلقي بين ذراعي نحات،وعلى القاعدة الحجرية المجاورة لهما، توجد صورة جانبية لرأس امرأة شبيهة بالمنحوتة التي كنت قد رأيتها في مشغلللنحت التابع له. إن النحات هو الآخر مشوش كما ترين، وهو ليس واثقاً من مسلكه. ولاشك أنك لو لاحظت الأشكالالمختلفة الأحجام والألوان، والنماذج (الموديلات) التي قامت عليها أعماله، لاستطعت أن تدركي الفوضى، إنه لا يعرف مايريد، فلا عجب أن يكون أسلوبه غامضاً هكذا. لقد صور الطبيعة في بداية الأمر، ثم جرّب التجريد، وانتهى مستريحاًيداعب نماذجه، وانظري هنا. قال ذلك وأشار إلى (موديل) واقف أمام عمل قيد الإنشاء لنحات بدا أنه مكون من كرسيبمسندين من طراز الروكوكو، كانت بعض عناصره قائمة على شكل امرأة، وتساءل مبتسماً: من ذا يقدر على عملنحت من مخلفات أشياء كهذه؟ ثم قال مبتسماً: إنه ليس جاداً، مع أنه، بطبيعة الحال، يعتقد أنه جاد: والدليل على ذلك لحيتهالتي أطلقها. قال ذلك وهو يشير إلى لوحة أخرى فيها امرأة (موديل) شقراء ترقد بين ذراعي نحات. وقال: اكما أنه يلفأطواق الزهر حول شعرهما... ثم اقترب بنظره، وقال: اأعتقد بأن هذا النبات الذي يزين شعرها هو (الكليماتيس)،أما هو فإنه يضع اللبلاب حول شعره، الرجال دائماً أشد إخلاصاً من النساء!
ثم انتقل إلى الصورة التالية: نحات يقوم بنحت رأس، ويبدو شديد الرضى عن نفسه، وقد انبثقت من الرأس خيوط منشعاع. قال: أترين؟ إنه، وهو ينحت الرأس، واثق من عبقريته الخالصة. وانتقل إلى صورة أخرى، يظهر فيها النحاتجالسًا أمام عمله، والمرأة (الموديل) تقف بينه وبين المنحوتة: إنها تقول له:لم أكن في يوم ما على هذا الشكل أبدًا. وألقىنظرة أخرى على الورقة ثم نظر إليّ: طبعاً هذه أنت ثانية في ذلك الموديل، لو كان عليّ الآن أن أصوّر عينيك، لجاءتاشبيهتين بهذين العينين تماماً.وظهر في الصورة التالية الرجل ذو اللحية السوداء، شبيه (رامبرانت)، وهو يقف أمام رسام شاب يرتدي قبعة آسيوية من
(فريجيا: Phrygian)، فزفر بيكاسو، وقال: يعتقد كل رسام بأنه رامبرانت، حتى هذا، وبوسعك أن تعلمي ذلك منقبعته التي كانت رائجة قبل مجيء رامبرانت بثلاثة آلاف عام في الأقل، الكل لديه الوهم ذاته.صورة أخرى تظهر فيها امرأة عارية، تنحني فوق نحات مستلقٍ، وقد تحدد ثقل جسدها وانحنائه بخطوط قليلة رشيقة، قال:اعلى وجهه صفاء شديد، أليس كذلك؟ فحين ينجح بتحقيق عمله من خلال خط واحد فقط، فلابد أن يكون واثقًا من أنه أوجدشيئًا ما. إذا كان النحت جيدًا - أي حين تكون الأشكال تامة، والكتل ممتلئة - وسكبت على الرأس ماءً، فالتمثال كله يبتل
بجريانه إلى الأسفل.ثم انتقل إلى صورة أخرى: تظهر فيها امرأة (موديل) مغطاة جزئياً، تقف إلى جانب امرأة (موديل) أخرى وقد جلست أماملوحة مرسومة تشبه إكليل ورودتتفجر: هذه التي تجلس في الأسفل شبيهة بواحدة من نساء (موديلات) ماتيس، فقد قررتأن تجرب رساماً آخر، وأنها تتطلع الآن إلى النتيجة، وتتمنى لو أنها لزمت دارها، فالأمر كله مربك. أما الأخرى فتقوللها: إنه عبقري. هل ينبغي لك أن تفهمي الأمر كله؟ وتطلع نحوي ثم قال: حول أي شيء يدور كل هذا، هلتعرفين؟ قلت إنني لم أكن واثقة من الأمر برمته، ولكن لدي تصور أولي عن الفكرة.قال: هذا يعني أنك قد رأيت ما فيه الكفاية، فيكفي ما رأينا هذا اليوم. أغلق المحفظة، وقال: لنذهب إلى الطابق الأعلى، أودأن أكوّن فكرة عن شيء ما أيضاً.تسلقنا السلم المتعرج الذي يؤدي إلى الطابق الأعلى، فوضع بيكاسو يده في يدي وقادني إلى غرفة النوم، ثم توقف فيمنتصف الغرفة والتفت نحوي: قلت لك أريد أن أكوّن فكرة عن شيء ما، إن ما عنيته حقاً هو أنني أردت أن أرى إذا كانت
الفكرة التي عندي صحيحة! وسألت عما تكون تلك الفكرة.قال: أريد أن أرى إن كان جسدك يتطابق مع الصورة التي رسمتها في ذهني، كما أريد أيضاً أن أرى كيف يتناسب مععقلك. وقفت هناك ومضى يعريني، وعندما انتهى، وضع ثيابي على الكرسي، ثم رجع إلى الوراء قرب السرير، ووقفعلى بعد تسعة أقدام مني أو عشرة، وبدأ يتفحصني، وقال بعد وهلة: أتعرفين أنه أمر لا يصدّق، فجسدك يطابق تصوريله. لا بد أنني ظهرت على شيء من عدم الثقة بنفسي، وأنا أقف هناك في منتصف الغرفة. جلس على السرير وطلب منيأن أذهب إليه، فسرت نحوه وسحبني ليجلسني على ركبتيه. أعتقد أنه أدرك حرجي، وأنني كنت سأقبل بكل ما يطلبه مني،لا لأنني كنت حقاً أريد ذلك، ولكن لأنني كنت قد عزمت على ذلك. لا بد أنه شعر بكل ذلك، وأدرك أنني لم أزل مترددة
إلى حد ما، ولم تكن لدي رغبة حقيقيّة، لأنه مضى يطمئنني، وقال إن ما يريده مني هو أن أكون إلى جانبه، ولم يشعر بأندورة علاقتنا قد اكتملت بعد، مثل دقة الساعة، التي لا بد أن تأتي في موعدها المقرر، وقال إن كل ما دار بيننا أو ماسيدور هو شيء رائع بلا شك، وعلى كل منا أن يشعر بأن له كامل حريته، وأن كل ما كان سيحدث ينبغي له أن يحدثلأننا نريده.قلت إنني كنت أريد أن آتي لرؤيته، وأنا مدركة لما قد ينتج عن ذلك، وكنت مستعدة لقبول النتائج، ولكنني لم أكن راغبةحقاً، وإن كل ما سأفعله لن يكون بكامل رضاي، بل من أجل إرضائه فقط. لقد أدرك الفرق بين الاثنين من اللحظة التيعرّاني فيها وأخذ يتفحصني، وأنا واقفة هناك في منتصف الغرفة. وبدأت نظرتي كلها إلى الموضوع تتغير، ففعله ذاكأحدث لدي صدمة، وشعرت فجأة بأني قادرة على أن أثق به ثقة كاملة، وأنني كنت أعيش بداية حياتي، إذ ليس منالضروري أن يعيش المرء بداية حياته عند بدايتها.طلب مني أن أستلقي على الفراش، واستلقى إلى جانبي، فنظر إليّ بدقة بالغة، وبحنان شديد، وهو يحرك يده بخفة فوقجسدي، مثل نحات يتحسس تمثاله ليتأكد أن قوالب الشكل كانت كما ينبغي. كان بالغ الرقة، وأن الانطباع الذي رافقني حتى
هذا اليوم، هو رقته الفائقة.أخبرني إن كل ما كنت سأقوم به أو يقوم به، منذ ذلك اليوم، هو أمر في غاية الأهمية: فكل كلمة تقال وكل إيماءة يمكن أنيكون لها معنى، وأن كل ما قد يحدث بيننا يمكن أن يجعلنا نتغير باستمرار، وقال: من أجل ذلك أتمنى أن أوقف الزمن فيهذه اللحظة، وأبقي على الأشياء عند هذا الحد تماماً، لأنني أشعر بأن هذه اللحظة هي بداية حقيقية. لدينا في متناول أيديناتجربة محددة ولكن مقدارها غير معلوم، فحالما تنقلب الساعة الزجاجية، يأخذ الرمل بالانحدار، وأنه حين يبدأ، لا يمكن أنيتوقف إلاّ بعد نفاده، لذلك أتمنى لو استطعت الإمساك به عند البداية. ينبغي لنا أن نطلق أدنى حد من الإشارات، ونتفوهبأدنى حد من الكلمات، بل أن نرى بعضنا بأقل ما يمكن لو كان ذلك من شأنه إطالة كل شيء. نحن لا نعرف كم نملك منالأمور التي تنتظرنا، لذلك علينا أن نحتاط ما وسعنا كي لا ندمر جمال ما نملك. كل شيء يوجد بكميات محددة، ولا سيماالسعادة، فإذا ما ولد الحب، فذلك لأنه مقدر علينا، وكذلك زمنه ومحتواه. إن استطعت أن تصلي إلى غايتك بكل قوة منذاليوم الأول، فسينتهي كل شيء عند اليوم الأول، فإذا كنت تريدين لأمر ما أن يطول أمده، فعليك أن تكوني في منتهىالحذر من الإفراط بطلبه مهما كان بسيطاً، فمن شأن ذلك الإفراط أن يعيق تطوره ليبلغ أقصى مدى في أطول زمن.كان يشرح لي وجهة نظره وأنا مستلقية بين ذراعيه في سعادة كاملة، دون أن أشعر بالحاجة إلى أي شيء آخر غير بقائنامعاً. وأخيراً انتهى من حديثه، وبقينا مستلقيين هناك، دون أي كلام، فشعرت بأنها كانت بداية شيء رائع جداً بكل ما تحملهالكلمة من معنى. كنت على علم من أنه لم يكن يدعي، ولم يقل إنه يحبني - كان ذلك مبكراً جداً، ثم قالها وأظهرها، ولكنبعد ذلك بأسابيع. لو كان قد امتلكني عندئذ بقوة جسده، أو أعلن حبه بإظهار سيل من العواطف، لما صدقت أيّاً منها، ولكنبما أن الأمر جرى على ما جرى عليه، فقد آمنت به إيماناً كاملاً.
كنت أعده حتى ذلك الحين، الفنان العظيم الذي يعرفه كل فرد ويعجب به، إنساناً في غاية الذكاء، سريع البديهة، ولكنه غيرشخصي، ومنذ ذلك الحين غدا شخصاً محددًا. إلى ذلك الحين كان مجرد شخص أثار اهتمامي وأسر عقلي، أما الآن فقدأصبحت عواطفي ومحبتي داخل نطاق ذلك الأسر. لم أكن أظن، قبل ذلك الوقت، أن بإمكاني أن أحبه قط، ولكنني عرفتالآن أنه لم يكن أمامي غير ذلك السبيل. كان قادرًا، كما يظهر، على تخطي كل الأشكال النمطية الثابتة في علاقاتهالإنسانية، كما يتخطاها في فنه، وبوسع المرء أن يدرك تلك الأنماط الثابتة حتى لو لم يكن قد خبرها جميعاً. لقد أمسكبزمام الموقف حين أوقف المناورات الفكرية، وتخطى اللعبة الجنسية، وجعل علاقتنا قائمة على الأسس الممكنة وحسب،من أجل أن تكون لها قيمة لديه ولدي أيضًا، وهذا ما أدركته آنذاك.
أدركت بأن الوقت قد حان لانصرافي، فقلت له ذلك. قال: ينبغي أن لا نلتقي كثيراً، لو أردت أن تبقى أجنحة الفراشةلامعة، فعليك أن لا تلمسيها، ينبغي لنا أن لا نسيء استعمال ما من شأنه أن يحمل النور إلى حياتنا. كل شيء آخر فيحياتي يرهقني ويغلق عليّ منافذ الضياء، ويبدو لي أن هذا الذي بيني وبينك مثل نافذة تنفتح، وأنا أريدها أن تظل مفتوحة.علينا أن نلتقي، ولكن ليس بإفراط، كلما أردت لقائي، اتصلي بي وأعلميني بذلك.عندما غادرت المكان في ذلك اليوم، علمت أن كل ما سيأتي- مهما كان رائعاً أو مؤلماً أو الاثنين معاً - سيكون في غايةالأهمية. فعلى مدى ستة أشهر كنا ندور حول بعضنا بطريقة لا تخلو من السخرية، والآن، وبحدود زمن لا يتجاوزالساعة، فـي أول مواجهة حقيقية بيننا، غابت السخرية وأصبح الأمر شديد الجدية، بل غدا حالة من حالات التجلي.كان يوماً بارداً مكفهراً من أيام فبراير، غير أن ذكرياتي عنه مليئة بشمس منتصف الصيف.

الصفحات