أنت هنا

قراءة كتاب الرحلات والرحالة في التاريخ الإسلامي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الرحلات والرحالة في التاريخ الإسلامي

الرحلات والرحالة في التاريخ الإسلامي

كتاب " الرحلات والرحالة في التاريخ الإسلامي " ، تأليف د. جمال الدين فالح الكيلاني .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 5

أفاضت كتب الرحلات الجغرافية أيضًا في الجانب البشري. فابن بطوطة يهتم بطبائع الناس وعاداتهم في كل بلد يتوقف فيه. فعندما وصل الهند مثلاً تكلّم عن معظم عادات الهندوس وعن إحراق المرأة الهندوسية نفسها بعد وفاة زوجها ¸فترتدي أحسن ما لديها من الثياب وتمتطي صهوة جوادها وتضحك وتمرح حتى تصل إلى مكان الحفل، وهناك يدثرها أحد الكهنة بثوب خشن من القطن ثم يلقي عليه كمية كبيرة من الزيت، ثم يتقدم الكهنة نحوها فيشعلون النار في رأسها وكتفها ووسطها، وسرعان ما تلتهمها النيران المتوهجة التي كان يذكيها الحاضرون بمزيد من الوقود والحطب لتزداد اشتعالاً·. وفي الصين يتكلم عن ملبس القوم ومآكلهم ومشاربهم واستخدامهم للعملات الورقية في التداول بدلاً عن العملات الفضية أو الذهبية. ونجده يشيد بتمسك السودانيين (السودان الغربي) بدينهم وحرصهم على إقامة الشعائر الخمس. ويتضح من مجمل مشاهداته أنه اهتم بتسجيل المظاهر الاجتماعية ووصف العادات والتقاليد وطبائع الأقوام وأديانهم وغيرها فكتاباته في هذا الجانب أقرب إلى علم الجغرافيا الاجتماعية منها إلى التاريخ أو الجغرافيا الطبيعية.

جغرافيا المدن. تناولت مصنفات المسلمين أيضًا جغرافيا المدن. فقد اهتمت هذه المصنفات بذكر أسماء الأمصار والمدن والبلاد وضبط هذه الأسماء واشتقاقاتها إن كانت عربية. وأفضل المصنفات التي اهتمت بهذا الجانب هي المعاجم الجغرافية مثل معجم ما استعجم؛ معجم البلدان؛ تقويم البلدان. ووضع بعضهم مؤلفات اقتصرها على أسماء الأماكن المتشابهة في الاسم، مثل كتاب المشترك وَضْعًا والمفترق صقْعًا لياقوت الحموي. وتحدثوا عن أسس اختيار المواضع التي تقام عليها المدن من حيث توافر المياه وملاءمة الهواء وارتفاع المكان. ولابن خلدون آراء في سبب نشأة المدن، وأفضل البقاع لإقامة هذه المدن، كما يتحدث عن أسباب خرابها فيقول ¸سبب خراب المدن قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن… وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم. فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس·.

وتناول إخوان الصفا أيضًا جغرافية المدن، وسكانها وطبائعهم، وأعمالهم، وعاداتهم، ودوابهم. فيقولون في الرسالة الخامسة وهي رسالة في الجغرافيا ¸إن في كل إقليم من الأقاليم السبعة ألوفًا من المدن تزيد وتنقص. وفي كل مدينة أمم من الناس مختلفة ألسنتهم، وألوانهم، وطباعهم، وآدابهم، ومذاهبهم، وأعمالهم وصنائعهم. وعاداتهم ولا يشبه بعضهم بعضًا. وهكذا حكم حيوانها ومعادنها مختلفة الشكل والطعم واللون والرائحة. وسبب ذلك اختلاف أهوية البلاد وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها·.

تناول القزويني في كتابه المواعظ والاعتبار عددًا من المدن التي تستجلب منها بضائع معينة أو اشتهرت بصنعة خاصة أو انفردت بصفة غلبت عليها من ذلك: مَنْدل مدينة بأرض الهند يكثر بها العود حتى يقال للعود المندل، وسيرجان قصبة كرمان كثيرة العلم، وسمهر قرية بالحبشة بها صناعة الرِّماح السَّمهْرية.

ويقتصر كتاب الإفادة لعبداللطيف البغدادي (ت 629هـ، 1232م) على مدن مصر وسكانها ونباتها وحيوانها. ويصف ما بها من آثار، وينحي باللائمة على الذين شوَّهوها أو خربوها. ويتحدث عن الأبنية وأنواع الأطعمة والأشربة.

الجغرافيا الاقتصادية. زخرت المصنفات الجغرافية بالكثير من المعلومات الاقتصادية مثل طرق كسب العيش عند الأمم والزراعة، والتجارة، وأنواع المعاملات والمقايضات، والأوزان والمكاييل، وأنواع العملات المتداولة وطرق النقل والمواصلات.

تناول الجغرافيون العرب والمسلمون جوانب من الجغرافيا التجارية، وأنواع التجارة والبيع والشراء والطرق التي تسلكها قوافل التجارة براً أو بحراً. وأهم المدن التجارية في المشرق الإسلامي والمغرب وكذلك الأسواق كسوق عدن وسواكن على بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصحار وعُمان ودبي في الخليج العربي، وحضرموت وعدن. وذكروا أن بعضًا من هذه الأسواق تخصصت في تجارة بعينها، كعدن وحضرموت اللتين اشتهرتا بالاتجار في الطّيب والنعال. وكان أقوام من الهند وبلاد فارس واليهود والنصارى يعملون إلى جانب العرب في التجارة من وإلى بلاد العرب. وذكر الجغرافيون العملات التي تعامل بها الناس في الدولة الإسلامية، فالنقود في الصين كانت عملات ورقية. واستخدم العرب في داخل الجزيرة العربية الدينار المضروب من الذهب والدرهم الفضي. واستخدم أهل بخارى الدرهم لكنهم لم يتعاملوا بالدينار. واستخدم أهل الجزيرة العربية من المكاييل الصاع والمد. واستخدم أهل الشام القفيز والويبة والمكوك والكيلجة؛ والكيلجة نحو صاع ونصف الصاع، والمكوك ثلاث كيالج، والويبة مكوكان، والقفيز أربع ويبات. كما استخدم المسلمون الدانق والقيراط والمثقال والأوقية والرطل والقنطار والقسط ويساوي مُدَّيْن، والفرق يساوي ستة أقساط. ومن مقاييس المسافات ذكر الجغرافيون على سبيل المثال: الفرسخ والميل والمرحلة والذراع والشِّبْر والإصبع والغلوة وهي رمية السهم.

تناول الجغرافيون المسلمون أهم الصناعات والحرف المختلفة في أرجاء الدولة الإسلامية. وذكروا من ذلك صناعة الثياب وصباغتها والمواد التي تصنع منها سواء كانت من الصوف أو الوبر أو القطن أو الكتان أو الحرير، وكل منطقة كانت تشتهر بحرفة أو صناعة فقد كانت دمياط وتنيس في مصر أكبر مركزين لصناعة النسيج، وكانت مدينة كازرون في بلاد فارس مشهورة بصناعة نسيج الكتان، ومرو ونيسابور اشتهرتا بصناعة ثياب القطن، وعبدان بصناعة الحُصُر. وذكر ابن الوزان في كتابه وصف إفريقيا، أن بمدينة فاس 120 موضعًا خاصاً بصناعة النسيج يعمل فيها نحو 20,000 عامل.

المعلومات الجغرافية أول من ربطها بالخريطة أبوزيد البلخي؛ فقد جعل المصورات أساسًا لإيضاح الجغرافيا، والصورة توضح ديار العرب كما رسمها البلخي.

الخرائط. بعدما اتسعت معرفة المسلمين بأقسام الأرض وصفاتها بسبب الفتوح خلال القرن الأول الهجري، اهتموا برسم الخرائط وقراءتها. واستخدم الجغرافيون العرب والمسلمون أسماء كثيرة لتدل على معنى الخريطة، من ذلك؛ الرسم؛ الصورة؛ لوح الترسيم؛ لوح الرسم؛ وكذلك الجغرافيا التي لم تكن تعني سوى الخريطة. أما لفظ خريطة فلم يرد عن العرب قبل العصر العباسي بالمعنى المراد به الآن. وقد يكون أصله مُعرَّبًا عن لفظ Carta أو مشتقاً من كلمة خَرَت في اللغة العربية، ومنها خرت الأرض؛ أي جال فيها، وعالِم خِرِّيت؛ أي جوال ماهر.

اعتمدت الخرائط العربية في المرحلة الأولى على الحسابات الفلكية متأثرة بالنظريات ا لرومانية والإغريقية؛ فقد صنع جغرافيو العرب صورة للأقاليم (خريطة) عرفت باسم الخريطة المأمونية. ظهرت عليها المناطق والبلدان موقعة بأسمائها العربية للقسم المعمور من الأرض وفق خطوط الطول ودوائر العرض. وكانت هذه الخريطة ملونة كما يتحدث عنها المسعودي في التنبيه والإشراف: ¸رأيت هذه الأقاليم مصوّرة في غير كتاب بأنواع الأصباغ. وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس، وتفسير جغرافيا قطع الأرض. وهي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون، واجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره، صوّر فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبرّه وبحره، عامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك؛ وهي أحسن مما تقدم من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما·.

الخريطة عرفت عند المسلمين باسم لوح الترسيم، والصورة والرسم وكذلك الجغرافيا.

إلا أننا نجد نكوصًا عن هذه الطريقة في رسم الخرائط في المرحلة التي تلت هذه الخريطة. حيث بدأ نمط آخر من الخرائط ارتبط بالمصنفات الإقليمية التي رسمها الجغرافيون الإقليميون الذين استحدثوا منهجًا جديدًا في رسم خرائط الأرض، ومن بين هؤلاء أبو زيد البلخي والإصطخري وابن حوقل والمقدسي. فبينما استندت الخريطة المأمونية وخرائط الحقبة السابقة الأسلوب الفلكي الرياضي، مع الاستعانة بخطوط الطول والعرض في تحديد المواقع والأنهار والبحار، نجد أن الخرائط الإقليمية لم تعر الدقة العلمية انتباهًا واقتصر اهتمامها على تمثيل الحقائق العلمية الجغرافية بالمصورات.

أعطى المستشرق الألماني كونراد مولر اهتمامًا خاصاً بجمع الخرائط الإقليمية العربية التي بلغ عددها 275 خريطة ونشرها في مجلد خاص تحت عنوان الخرائط العربية، وأطلق عليها أطلس الإسلام ذلك لأنها تحوي 21 خارطة وتعرض المعلومات فيها وفق نظام واحد يستهل بخارطة العالم المستديرة، تليها خريطة جزيرة العرب، وبحر فارس والشام، ومصر، وبحر الروم، ثم 14 خريطة أخرى تصوّر الأجزاء الوسطى والشرقية من العالم الإسلامي. ويعد أبوزيد البلخي أول من ربط المعلومات الجغرافية بالخريطة وجعل المصورات أساسًا للإيضاح الجغرافي. وقد تبع البلخيّ في ذلك كل من الإصطخري وابن حوقل. ومن ناحية عامة تكاد تشترك جميع خرائط الجغرافيين الإقليميين في صفاتها العامة من حيث الشكل الهندسي التخطيطي الذي لا يركز على الشكل الحقيقي للبلاد؛ فغالبًا ما تصور البلاد على هيئة مربع أو مستطيل، وتكون الجبال والأنهار والبحار خطوطًا مستقيمة أو أقواسًا ودوائر. أما البحار الداخلية فتأتي على هيئة دوائر كاملة. وكانت كل خريطة مستقلة تمامًا عن الأخرى بحيث لا يمكن جمعها لتكوين خريطة واحدة مثل خرائط الإدريسي.

 

خريطة العالم للإدريسي كما كونها مولر من الخرائط الجزئية التي عملها الإدريسي (548هـ، 1153م).

يعد عمل الإدريسي بداية المرحلة الثالثة التي وصلت ما انقطع من المرحلة الأولى. فقد اختلف ما أعده من خرائط عن الخرائط التي أعدها الجغرافيون الإقليميون؛ إذ إن منهجه الإقليمي يختلف عمن تقدمه من الإقليميين. والتزم الإدريسي في خرائطه على مقياس الرسم، وتحديد مواضع خطوط الطول، ودوائر العرض، والتزم بالشكل الواقعي للمنطقة الجغرافية التي يعنيها. وقد ضمّن كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أو ما يطلق عليه أيضًا كتاب رجار (نسبة إلى روجر الثاني أو رُجار ملك صقلية)70 خريطة بالإضافة إلى خريطة العالم الدائرية المألوفة. وقسم كل إقليم إلى عشرة أقسام رأسية أفرد لكل منها خريطة. وقد جمعها مولر كلها، وكوّن منها خريطة واحدة بلغت مساحتها مترين مربعين.

عني الجغرافيون العرب والمسلمون بأنواع مختلفة أخرى من الخرائط؛ كخرائط المدن والمساجد والسواحل، وخرائط توضيح اتجاه القبلة. ومن ذلك خريطة العراق للمقدسي والإصطخري. وخريطة مدينة قزوين للقزويني. وخريطتا تحديد القبلة للصفاقسي وابن الوردي. كما اهتم الجغرافيون العرب بالخرائط البحرية. من أهم هذه الخرائط، تلك التي رسمتها أسرة الشرفي الصفاقسي التونسية بدءًا من عام 958هـ، 1551م رسموا فيها سواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية وسواحله الشمالية في إيطاليا وأسبانيا وجنوب فرنسا وسردينيا وكورسيكا، وسواحل البحر الأسود وبحر آزوف وسواحل الشام وبرقة ومصر.

رواد الجغرافيا وأهم مؤلفاتهم. جاب الجغرافيون المسلمون معظم أنحاء العالم المعروف آنذاك، وعادوا ليسجلوا حصيلة وافرة من المعلومات الجغرافية المهمة المبنيّة على المشاهدة، وكتبوا عن حياة الشعوب الأخرى وعاداتهم وطبائعهم وأصبح لهذا العلم أهميته بعد أن أسهم فيه هؤلاء الجغرافيون إسهامًا بيّنًا. وقد تناولت تصنيفاتهم شتى فروع المعرفة الجغرافية المعروفة حاليًا، وكتب في ذلك أعلام الجغرافيين من أمثال اليعقوبي والمقدسي والمسعودي والبيروني والإصطخري وابن حوقل والإدريسي وياقوت الحموي. انظر جدول أشهر الجغرافيين العرب وأهم مؤلفاتهم في هذه المقالة. ويتناول الحديث فيما يلي إسهام ثلاثة من الجغرافيين عاشوا في حقب مختلفة ومثلوا مدارس جغرافية متباينة، وهم المقدسي والإدريسي وياقوت الحموي، ويمثل الأول مدرسة الجغرافية الإقليمية، والثاني المدرسة المطورة للخرائط بينما يمثل الثالث كتّاب الجغرافيا المعجمية.

إسهام المقدسي. كان شمس الدين أبو عبدالله المقدسي البشاري (ت 390هـ، 1000م) من كبار الجغرافيين ومشاهيرهم. ويعد المقدسي من طليعة العلماء الذين كتبوا في الجغرافيا الإقليمية، ويتضح ذلك بجلاء في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. واقتصر فيه على مملكة الإسلام، ولم يدون شيئًا عما سواها لأنه كما يقول لم يزرها، ولم ير فائدة في ذكرها وإن كان قد ذكر الأماكن التي يقطنها المسلمون منها. وقام في هذا المصنف بالتركيز على الجغرافيا الوصفية؛ كالكلام عن الأقاليم السبعة وسطح الأرض والأقسام السياسية وذكر المسافات وطرق المواصلات. وقلّما تعرض للجغرافيا الطبيعية كالجبال والأنهار، ولكنه أسهب في الجغرافيا البشرية كالبحث في المناخ والزرع والشعوب واللغات وأنواع التجارة، والأخلاق والطباع والعادات، والضرائب. ورسم في كتابه البلدان خريطة مجسّمة وضّح فيها الأقاليم التي زارها وحدودها، وجعل فيها الطرق المعروفة التي تصل بين المدن باللون الأحمر والصحاري باللون الأصفر، والبحار باللون الأخضر، والأنهار باللون الأزرق والجبال باللون الأغبر.

تأثر المقدسي في تقسيماته الإقليمية بعمل مَنْ سبقه من الجغرافيين الإقليميين كالإصطخري وابن حوقل على الرغم من أنه حاول إدماج بعض الأقاليم في بعض، وميَّز بعض الأقاليم التي لم يميزها سابقوه. وقسّم الأقاليم الإسلامية إلى قسمين: أحدهما يتناول أقاليم العرب، والثاني أقاليم العجم؛ وهو أمر لم يسبق إليه. وضمّن القسمين 15 إقليمًا كان نصيب أقاليم العرب منها سبعة هي: جزيرة العرب؛ العراق؛ آقور (أرض الجزيرة)؛ الشام؛ مصر؛ المغرب؛ بادية العرب. أما أقاليم العجم فثمانية هي: المشرق (خراسان، وسجستان، وما وراء النهر)؛ الدّيلم؛ الرحاب؛ الجبال؛ خوزستان؛ فارس؛ كرمان؛ السند. ولم يكن أساس التقسيم لديه ثابتًا فهو مرة إداري ومرّة سياسي ومرّة لغوي، إلا أنه يدافع عن عدم الاطّراد في هذه التقسيمات بقوله ¸… أما خراسان فإن أبا زيد جعلها إقليمين، وهو إمام في هذا العلم بخاصة في إقليمه؛ فلا عيب علينا أن جعلناها جانبين. فإن قال لم خالفته بعد ما نصَّبته إمامًا فصيرت خراسان إقليمًا واحدًا قيل له: لنا في هذا جوابان؛ أحدهما أننا لم نحب أن نفرق مملكة آل سامان، والجواب الثاني أن أبا عبدالله الجيهاني أيضًا إمام في هذا العلم وهو لم يفرق خراسان·.

لم يقف تقسيم المقدسي عند حد الأقاليم، بل قسّم كل إقليم إلى كُوَر (قرى متجمعة)، ولكل كور قصبة، ولكل قصبة مدن. ثم تناول جوانب عديدة تغطي معظم ما تغطيه فروع الجغرافيا حاليًا؛ فقد تناول المناخ من حيث الأمطار والرياح والحرارة، والمنافذ والبحار والبحيرات والأنهار، والجوانب الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة ومهن، والأوزان والمكاييل والأطعمة والأشربة والعادات والتقاليد والمكوس والطرق والمسافات.

خرائط الإدريسي التزم فيها مقياس الرسم وتحديد الخطوط ودوائر العرض.

إسهام الإدريسي. يعد الشريف الإدريسي أشهر جغرافيِّي القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي. ولما انتقل إلى صقلية من قرطبة دعاه الملك رجار (روجر الثاني) ملك صقلية ليؤلف له كتابًا في الجغرافيا ¸ليعرف كيفيات بلاده حقيقة، ويعلم حدودها ومسالكها برًا وبحرًا· وسمى الكتاب باسم نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ويسمى أيضًا كتاب رجار أو الكتاب الرجاري. وقيمة هذا الكتاب تنبع من الخرائط التي بلغ عددها السبعين وغطت العالم أجمعه بدقة. ورسمها على أساس أن الأرض كروية في وقت ساد خلاله الاعتقاد الجازم بأنها مسطحة. وكان وصفه لأوروبا فيها أدق وأشمل حيث كان هذا الهدف الثاني من أهداف رُوجر. كما أعدّ الإدريسي لروجر كرة من الفضة الخالصة تمثل الجزء المعمور من العالم آنذاك ووضعها في قصر باليرمو عاصمة صقلية آنذاك، وانحصر هذا الجزء المعمور بين خطي عرض 63° شمالاً و16° جنوبًا، حيث منابع النيل والبحيرات الاستوائية التي يُظن أن الأوروبيين اكتشفوها خلال القرن التاسع عشر. يقول الإدريسي عن هذه الخريطة إن روجر أحضر له كرة من الفضة ¸عظيمة الجرم ضخمة الجسم في وزن أربعمائة رطل بالرومي، في كل رطل منها مائة درهم واثنا عشر درهمًا، فلما كملت أمر أن تنقش عليها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وريفها، وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها، ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها، وما بين كل بلدين فيها وبين غيرها من الطرقات المطروقة والأميال المحدودة، والمسافات المشهورة، والمراسي المعروفة، على نص ما يخرج إليهم مثلاً في لوح الترسيم، ولا يغادروا منه شيئًا ويأتوا به على هيئته وشكله·.

خرائط الإدريسي رسمها على أساس أن الأرض كروية في وقت ساد فيه الاعتقاد الجازم أنها مسطحة، وأعد لروجر الثاني ملك صقلية كرة من الفضة الخالصة تمثل الجزء المعمور من الأرض.

ظل الإدريسي في بلاط روجر إلى أن توفي روجر عام 549هـ، 1154م، واستمر يعمل في بلاد النورمنديين؛ فصنّف كتاب روض الأُنس ونزهة النفس الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب المسالك والممالك وقد ألّفه بطلب من الملك غليوم الأول الذي خلف روجر، وفي عهده حطّم الثوار كرة الفضة ونهبوها عام 555هـ، 1160م. وبالإضافة إلي الكتابين المذكورين كانت له مؤلفات أخرى في الجغرافيا منها مصوّر لأشكال الكرة الأرضية، وخرائط تعد أولى الخرائط الصحيحة في العالم. ومن آرائه أن الأرض كروية لكنها ليست دائرية تمامًا فهي كالبيضة يقسمها خط الاستواء إلى قسمين متساويين؛ شمالي وجنوبي. ولعله أول من قاس بنجاح خطوط العرض. والتزمت خرائطه بمقياس الرسم وتحديد خطوط الطول والعرض تحديدًا دقيقًا مستخدمًا الألوان.

إسهام الحموي. صنّف أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي (ت 626هـ، 1229م) أوسع المعاجم الجغرافية وهو كتاب معجم البلدان. ويغطي كل الرقعة الإسلامية آنذاك. يبدأ المعجم بمقدمة يوضح فيها موضوع معجمه فيقول ¸فهذا كتاب في أسماء البلدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقرى، والمحال، والأوطان، والبحار، والأنهار، والغدران…·.

وياقوت ناقل أمين فقد أفاد من مؤلفات من سبقه في كثير من الأحيان، وأرجع الفضل لذويه، ومن هؤلاء ابن خرداذبه، والأصمعي والبلخي، والسيرافي والإصطخري، وابن حوقل، والبكري. ويبدأ كتابه بمقدمة تحتوي على خمسة أبواب مليئة بمعارف عامة تتصل بشتى العلوم الجغرافية، ثم تحدث عن صورة الأرض وأنها كرة في وسط الفلك. ثم تناول المصطلحات الجغرافية، والأقاليم وقياس المسافات، والألفاظ اللغوية والفقهية المتعلقة بالزكاة من حيث حكم الأرض التي يفتحها المسلمون، وحكم قسم الفيء والخراج فيما فتح منها بالصلح أو القتال. ثم يختم المقدمة بمعارف تاريخية عامة تتعلق بديار الإسلام وغيرها.

يلي ذلك متن المعجم، ويذكر فيه أسماء الأماكن مرتبة ترتيبًا ألفبائياً، ويحدد أطوال هذه الأماكن وعروضها ونشأتها ودورها التاريخي. ويحرص على رد كل اسم في هذا المعجم إلى أصل عربي، إلا فيما ندر، ويستشهد على هذا الاشتقاق بأشعار العرب. وتحظى الأماكن الكبيرة أو المشهورة لديه بعناية خاصة؛ إذ يصف كلا منها وصفًا مفصلاً دقيقًا يذكر فيه أهم المعالم كالمساجد والقلاع، وإذا اشتهر المكان بحادثة تاريخية، توقف عندها وسردها ووصفها. ويورد أسماء أهم العلماء والأدباء الذين نشأوا في ذلك المكان أو عملوا فيه، ويصف أحيانًا الأحوال الاجتماعية للقاطنين بهذا المكان ويورد أثناء ذلك عددًا من القصص أو الأحداث الطريفة.

الصفحات