أنت هنا

قراءة كتاب المحاورات السردية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المحاورات السردية

المحاورات السردية

في كتاب "المحاورات السردية" للكاتب والباحث العراقي د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3
- بكم تقدر الخسارة عمليا؟
 
- يقول الفضل الرقّاشي، وهو أشهر قُصّاص البصرة في القرن الهجري الثاني ما تكلّمتْ به العرب من جيد المنثور أكثر ممّا تكلّمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عُشره لا يؤكد الرقاشي قدم المرويّات السردية، فحسب، إنما يؤكد الحقيقة المرّة، وهي ضياع تسعة أعشارها، وبالمقابل جرى حفظ تسعة أعشار المرويّات الشعرية· تلاشت المرويّات السردية في الفضاء الشفويّ الواسع لأسباب منها حوامل لعقائد الجاهليّين الوثنية، ومنها قصور الوسائل الكتابيّة، ومنها سيادة التقاليد الشفويّة·
 
وإذا خُصّ الحديث بالمرويّات السرديّة الجاهليّة، فالأمر يزداد التباسا، بسبب التداخل اللانهائيّ بين النصّ القرآنيّ بوصفه نثرًا، وضروب النثر الأخرى التي عُرفت آنذاك من جهة، وبين الرسول بوصفه نبيًّا ومحدّثًا وخطيبًا وطائفة كبرى من المتنبئين والقصّاص والخطباء، ويزداد ذلك التداخل اشتباكًا إذا أخذنا في الحسبان شيوع الروح الدينيّ والتنبؤيّ في الأدب النثريّ عمومًا في تلك الحقبة، كما يدلّ عليه القرآن، والحديث، والشذرات المتناثرة التي وصلت إلينا من النثر المنسوب إليها· يضاف إلى كلّ ذلك، إستراتيجيّة الإقصاء والاستحواذ المزدوجة التي مارسها الخطاب الدينيّ تجاه مظاهر التعبير النثريّ المعاصرة له، أو تلك التي سبقته، ففي عصر شفويّ التراسل كالعصر الجاهليّ، تزداد احتمالات التداخل بين الخطابات الشفويّة، ويذوب بعضها في بعض، وتتمازج، وتمتثل لنسق ثقافيّ واحد، ويعاد إنتاجها في صور مختلفة طبقًا لمقتضيات الرواية الشفويّة، وحاجات التلقّي، وأيدلوجيا العصر الذي تظهر فيه المرويّات، أو تعاد فيه روايته· ما وصل إلينا وتم تداوله هو ذلك الذي توافق تماما مع المؤسسة الوليدة، أو اختلق ليعطي للأصول الدينية مشروعية دينية، فإذا كانت الرواية الرسمية أن العصر السابق للإسلام قد امتلأ بالتنبؤات الداعمة للظهور الإسلامي، فقد اختلقت المرويات لتوافق هذه الرواية الرسمية للتاريخ·
 
- لكن الدراسات التاريخية تقول أن أقدم النصوص المكتوبة تعود إلى قرنين فقط قبل الإسلام، كما أن هذه المنطقة لم تكن تتحدث أصلا بعربية قريش، فكيف نحمّل المرحلة الإسلامية وزر إعدام شيء غير موجود؟
 
- يصح هذا الكلام لو اعتبرنا أن النسق الكتابي هو الوحيد الذي يعطي المشروعية للسرد، لكن النسق الكتابي لم يبدأ إلا بعد قرون من ظهور الإسلام، فلا ينبغي اعتباره الشكل الضامن لمشروعية السرد· ما وصلنا تم تدوينه حسب شروط المؤسسة الدينية الجديدة· ينبغي الحذر من الظن بأن عدم وجود كتابة يعني عدم وجود موروث، ثمة موروث هائل اصطلح عليه القلقشندي أوابد العرب وهي مجموع عقائدهم وخيالاتهم وخرافاتهم التي جبّها الإسلام· لكل أمة أو جماعة عقائد ومتخيلات تمثلها سردياتها، وبها تصوغ هوياتها، وما تسرب من الإسرائيليات، والأخبار، وأيام العرب، فقد كبحها الإسلام بوصفه مؤسسة، ولكن أعيد إنتاجها بعد قرون ضمن شروط المؤسسة الجديدة· إن المدونات التاريخية الكبرى التي تركها الطبري، والمسعودي، وابن الأثير، وكبريات مدونات التفسير التي خلفها ابن كثير، والطبرسي، تعوم فوق السرديات الإسرائيلية·
 
لم تطوّر الثقافات الشفويّة ظروفا تسهم في حماية نصوصها الأدبيّة، وهي لا تستطيع ذلك؛ لأن تلك النصوص رهينة التداول الشفويّ الذي يتعرّض لإنزياحات، واقصاءات كثيرة· وغالبا ما تُدمج النبذ المتبقية من نصوص متماثلة في الموضوع والأسلوب، فتظهر من تلك الأمشاج نصوص جديدة تسهل نسبتها إلى هذا أو ذاك، وتخضع لروح العصر الذي تُعرف فيه· ويظهر الراوي بوصفه وسيطا بين جملة من النصوص ومتلقّيها، والنصوص القديمة، بما فيها الدينيّة، تمنح الوسيط (النبيّ/الراوي) مكانة مهمة، فهو يوصل بين قطبين: مصدر النصّ- وغالبًا ما يكون مجهولاً، وفي النصوص الدينيّة إلهيّا- ومتلقّيه، وهذا المتلقّي يكون جمهورا قبليّا، أو طائفة دينيّة، أو نخبة في مجلس، أو فردا مخصوصًا، فقوة التواصل الشفويّ بين الوسيط والمتلقّي هي التي أكسبت المرويّات السرديّة الجاهليّة دلالاتها، وأهميتها، ووظائفها؛ لأنها أدرجتها ضمن سياق تداوليّ شفويّ، فلا يمكن تثبيت صورة نهائيّة للمرويّات الشفويّة لكونها نهبا للألسن، وتتغيّر تبعًا للإسقاطات الخاصّة بالراوي وبيئته وعصره، والظروف المرافقة لروايته·
 
- كيف إذن يستقيم القول بأن المرويات السابقة جرى إعدامها بينما لدينا نص نبوي بخصوص الإسرائيليات يقول بعدم تصديقها ولا تكذيبها؟
 
- أنتم تشيرون إلى حديث الرسول حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وهو الحديث الذي اختلف الفقهاء والمحدثون حول قصد الرسول فيه· ويرجّح جواز رواية الإسرائيليات التي تعنى بأخبار الخلق، والجنة، والطوفان، والأنبياء، والرسل، وقد استفحل أمرها عند الثعلبي، والكسائي اللّذين خصّاها بكتب سمّيت بقصص الأنبياء، وكانت تطوّرت من أخبار قصيرة، منسوب معظمها إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وعبد الله بن سلاّم، إلى مرويّات مستفيضة حول بدء الخليقة، والنزول من الفردوس، وما جرى للأنبياء من مآسٍ في أقوامهم· جردت الإسرائيليات من محمولاتها، فأصبحت داعمة للمؤسسة الإسلامية، ومدشنة لها، وليس على أنها كيان مستقل يختص بعقيدة أخرى·
 
- لدينا نصّ نبوي واضح بعدم مسّ الإسرائيليات؟
 
- لا يمكن استنباط حكم نهائي من الحديث المذكور، ولم يتفق القدماء على الإطلاق بشأنه، وأنا أرجّح الجانب الاعتباري فقط من روايته· ولكن لا ينبغي إغفال السياق التاريخي لظهور الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية· يرى ابن خلدون أن بني إسرائيل كانوا على عقيدة، ودخل بعضهم الإسلام، فتخلو عن عقائدهم وتبنوا العقيدة الجديدة، لكنهم لم يتخلوا عن ذاكرتهم الجماعية التي اعتبرت رصيدا رمزيا لهم· ما وصل هو أخبار جرّدت من أبعادها الدلالية وغلّفت بمعاني ودلالات داعمة وممهدة للعقيدة الإسلامية·
 
- لكننا نلاحظ أن ما كان متصلا بالجاهلية قد تم إعدامه، أما ثقافات أهل الكتاب فكانت النظرة الإسلامية إليها قائمة على الاحترام والتقدير·

الصفحات