أنت هنا

قراءة كتاب المحاورات السردية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المحاورات السردية

المحاورات السردية

في كتاب "المحاورات السردية" للكاتب والباحث العراقي د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4
- يتصل ذلك فقط بمفهوم التوحيد في اليهودية، وعقائد الشرك في شبه الجزيرة العربية، ولم يتعاط الإسلام بالدرجة نفسها بين الاثنين· ففيما يخص التوحيد لم ينظر الإسلام نظرة عمياء إلى الماضي، ولكنه مارس عنفا مفرطا بحق مبدأ عبادة الأوثان، وأصرّ على اجتثاثه· فكرة التوحيد، التي مثلها أهل الكتاب، كانت موجودة في الديانات السابقة، ففي الديانة الموسوية كان الإله مجسدا، فإله اليهود يهوه تراءى للمؤمنين بالتوراة على أنه ملك عابس منحاز لبني إسرائيل، وبمجيء المسيحية ارتقى التوحيد درجة فأصبح الإله مزيجا من التجريد والتجسيد، فعيسى عاش وقتل في فلسطين، لكن اللاهوت الكنسي بتأثير الفلسفة اليونانية، ومبدأ اللوغوس وضعه في مصاف الإله، فصار مزيجا من إله وإنسان في المعتقد المسيحي الرسمي، وبذلك ارتقى التوحيد درجة عن التشخيص القديم، وبمجيء الإسلام تم الوصول إلى التوحيد المطلق حيث لا يمكن أن يجسد الله بصفات عيانية، أتمّ الإسلام فكرة التوحيد التي انبثقت في الأديان الطبيعية الأولى ثم ارتقت درجة مع اليهودية ثم المسيحية، وأخيرا الإسلام ، كل ما يتصل بأهل الكتاب يندرج في هذا السياق·
 
- ألا ترى بأن عدم تبنّي الإسلام للكتابة أدى إلى القضاء الموروث القديم·
 
- الرسالة الإسلامية في جوهرها رسالة شفوية، وكلام الله هو أكثر تجليات الشفاهية في التاريخ، كلام الله متن شفاهي حمله جبريل وأوحى به للنبي محمد، وبالتدوين استقرّ في المصحف، لعبت الكتابة دور الحافظ للكلام الشفوي، والفكرة ذاتها انتقلت للحديث النبوي· وأصبح الإسناد داعما لمشروعية المشافهة، فيؤكد على هيمنة النسق الشفوي في التعبير والتفكير· لا يمكن القول إن الإسلام جاء لنقض المكتوب، لأنه، الممثل الأكبر للحالة الشفوية·
 
أورد الأشعري تعريفا للكلام، بأنه معنى قائم بالنفس ولما كان القرآن كلام الله، فهو إذن معنى قائم بنفسه، والكتابة رسوم تدلّ عليه، وليس بموجود معها نفي الكتابة عن القرآن، وتخريج مفهوم كلام الله استنادا إلى الفصل بين المعنى القديم الجاهز، والمبنى المُحدث المتلفّظ به، قضيّة جوهريّة عند الأصوليّين، فالكتابة، اصطلاح بشريّ محدث، والقرآن معنى قديم كامن في نفس الله، ولا يجوز إلحاقه بها؛ لأنها رسوم تحيل عليه؛ ما تؤدّيه الكتابة أنها تعمل على تقييد الألفاظ بالرسوم الخطّيّة لأنّ مادتها الألفاظ الكتابة تحيل على لفظ، وهذا اللفظ يحيل على ملفوظ هو المعنى الخالد في النفس الإلهيّة· وقع فصل حاسم بين الكتابة ومحمولها المعنويّ الخالد· انتزعت الشفاهيّة شرعيّتها الثقافيّة من الدين؛ فالترابط بين التراسل الشفويّ والممارسات الدينيّة ظهر في عصر الرسول·
 
- إذا كان هذا الافتراض صحيحا، فكيف نتعامل مع الأحاديث التي تحثّ على القراءة وتعلّم الكتابة، بل إن هنالك تكليفات نبوية لبعض أصحابه بتعلم لغات معينة، هل يتفق هذا كله مع قولكم إن الإسلام كرّس الشفوية؟
 
- إذا أردنا أن ننبش في الاستثناءات فسوف نحصل على أدلة تثبت دعاوى متناقضة في كل النصوص الدينية، أتكلم في هذا السياق عن نسق شفوي كلي مهيمن على بنية الثقافة، لا عن معرفة أفراد معدودين للكتابة والقراءة· ورد عن الرسول قوله لا تكتبوا عنّي شيئا سوى القرآن، ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، ولما استؤذن أن يدوَّن حديثه، قال مستنكراً أكتابا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضلّ الأمم من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله، وورد عنه قوله إنما ضلّ من كان قبلكم بالكتابة
 
هذه باقة مختارة من الأحاديث التي تكاد تغصّ بها الكتب القديمة، صحيحة وموضوعة، وهي ترسم أفق انتقاص للكتابة التي بشيوعها ينتهك ما ينبغي صونه: وهو كتاب الله، حيث تحظر المنافسة· الكتابة تفضي إلى ظهور منافسة تحول دون التفرّد؛ فالأمم السابقة ضلّت لأنها كتبت· كتب البشر تسبب الضلالة لأنها توهم الناس بأنها نظير كتب السماء· ولتجنّب ذلك ينبغي وقف أية محاولة· لماذا ضلّت الأمم من قبل؟ لأنها خلطت بكتبها المنزّلة كتبَها المؤلّفة· لا يسمح، في التجربة الإسلاميّة، تكرار الخطأ مرّة أخرى· ينبغي التحذير الكامل من إمكانيّة الوقوع في ضلالة جديدة· هذا ما يمكن استخلاصه من تلك الأحاديث· وما لبث أن تكرّس موقف لاهوتيّ يقول بأميّة الرسول درءٌ لتهمة الأخذ عن كتب السابقين من الرسل، فتقرر معنى الأميّة بجهل القراءة والكتابة، وجرّد معناها من الدلالات الدينيّة التي كانت شائعة في عصر النبوة·
 
- إذن كيف تكرّست الشفاهية؟
 
- تدرّجت بمرور الزمن، ابتداء من الكلام الإلهيّ الذي هو معنى في نفس الله، مرورا باللفظ الذي يحيل عليه، وصولا إلى تقييد ذلك اللفظ كتابة· وتزامن ذلك، ممارسة وجدلا، مع تسويغ أميّة الرسول، وذمّ الكتابة، وإعلاء شأن السمع والحفظ· هذه هي الصورة التي تكرّست بها الشفاهية، وهي توضح أنها نفحت بقوة دينيّة، فمنحت سمة شبه مقدّسة، أصطلح عليها شخصيا القداسة بالمجاورة، فما جاور المقدس يكتسب صفة القداسة·
 
- لو كانت الأمية شرفا، كما تقول، لتباهي بها الخلفاء الراشدون، وهم الأقرب إلى فكر النبي، لكن هؤلاء كانوا كتبة· فهل أخطأوا جميعا شرف الاقتداء بالنبي؟
 
- أتحدث هنا عن أمّة لا عن أفراد معدودين، فأنا معنيّ بالأنساق الكبرى لتداول الأفكار، وضمن النسق الشفوي وقع تداول الإسلام، ولطالما رفض أن يدون القرآن على الجلود والصخور لأن مكانه القلوب المؤمنة الطاهرة، والألسنة التي تتداوله مشافهة، وظل هذا التقليد راسخا إلى عصور متأخرة، بما في ذلك الحديث النبوي·

الصفحات