أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

وقد بني المجمع على أطراف المقورة الدائرية، غالبا، فاتخذ شكلها· وبقيت كذلك فترة طويلة من الزمن حتى لم تعد المساكن المبنية حولها تتسع لكل ساكنيها من العائلات الممتدة التي كبرت، فانتشر البناء حولها وبعيدا عنها· ثم هجر الناس المساكن الأولى التي تركت للزمن يتصرف بها حتى تهدمت ولم يبق منها سوى خرابات لا تسكن·
مجمع واحد منها لم يبن حول مقورة· تلك كانت عقودنا، عقود أبي وأعمامي· وإنما كانت المنطقة منطقة كهوف عميقة لم يكتشفها أحد إلا عندما بدأ البناءون بالحفر لوضع الأساس· رأى هؤلاء أن البناء لن يكون أمينا ما لم تثقب سقوف تلك الكهوف وتؤسس الركب التي سترتفع العمارة فوقها بدءا من القاع الصخري لها؛ وأن ذلك سيكلف مالا كثيرا؛ وأن الأفضل أن يختاروا مكانا آخر بعيدا عن هذه المنطقة الخطرة· لكن عمي إبراهيم وهو الأكبر بين الأخوة أصر على بناء الركب مهما كلفت·
لم يكن أحد من الأخوة الآخرين قادرا على الاعتراض أو إبداء الرأي· فتم العمل بما رآه الكبير، فأتت العقود على كل ما ادخروه من مال· ولكنها جاءت في النهاية أجمل المباني في القرية وكل القرى حولها· كانت أشبه بدائرة حجرية محمية من كل الجهات بجدران العقود وبسور ذي بوابتين كبيرتين جلبت حنوتهما وبعض ما زينت به من حجارة جرانيتية جميلة، من مدينة بيت رأس الأثرية القريبة، إحدى المدن الرومانية العشر التي بنيت كحصون لحراسة الساحل من الصحراء· وقد جعلت المضافة مركز المجمع وأجمل بناء فيه·
تتباهى مضافتنا بين كل المضافات بحجمها الكبير وبنائها المهيب، والحجارة النادرة التي زينتها من الداخل وخاصة موقد النار - المنقل- الذي زرع في وسطها· وهو حجر جرانيتي نحتت النقرة في وسطه على شكل متوازي مستطيلات يكون من العمق بما يكفي للنار ودلال القهوة الكثيرة· أما إطاره، فقد تُركت فيها عند النحت مخاريط صغيرة بارزة توضع عليها، مقلوبةًًً، فناجين القهوة والشاي بعد غسلها، كما كانت فيها أمكنة محفورة لملاقط النار ومحاريكها· أما المساحات المتبقية من ذلك الإطار على أطراف الموقد الأربعة فكافية لاستعمالات الجالسين تتسع لكل أغراضهم الخاصة بما فيها أمكنة لوضع صحون الأكل عليها، إذا أرادوا·
كما كان في المضافة، أيضا، حجر جرانيتي على شكل متوازي مستطيلات حفرت فيه على صفين متوازيين أربع عشرة حفرة تصلح للعبة يبدو أنها كانت معروفة في بلادنا منذ أيام الرومان على الأقل، ولا تزال تلعب حتى الآن وتسمى المنقلة·
تتم اللعبة عن طريق وضع سبعة أحجار من حجم واحد في كل حفرة· يفضل أن تكون الأحجار من الرخام، إذا كان ذلك ممكنا· وللعبة، كأي لعبة قوانينها، وإحدى لعب المنقلة تسمى المجنونة· وهي مجنونة بالفعل فكثيراً ما حدث شجار بين اللاعبين حول مسيرة اللعبة· يشترك في أية لعبة فيها، عادة، لاعبان اثنان· وقد تبلغ الحماسة أن يشارك في اللعب كل الحاضرين مهما كان عددهم، على أن يقوم المشاركون من غير اللاعبين الأساسيين بتقديم المشورة فقط·
لم يتحرك حجر المنقلة من مكانه حتى اختفي بطريقة غامضة بعد اكثر من سبعين سنة من إدخاله للمضافة· لقد كان جزءا من المضافة ومعلما من معالمها، يندر أن يكون هناك رجل من القرية أو القرى المجاورة لم تكن له ذكريات معه·
كانت مضافة واسعة ومريحة ويقبل عليها أهل البلد والضيوف· وقد عُرفت ردحا طويلا من تاريخها بمضافة القعدان - هذا هو اسم الفخذ من عشيرة البطاينه التي أنتسب إليها، قبل أن تتدخل الأفكار الحديثة فيتغير اسمهم إلى آل الطويل·
لم تكن حكما بعيدة عن مدينة إربد التي يعقد فيها السوق كل يوم اثنين· ولما كانت تلك المضافة، ككل المضافات في القرية مفتوحة للضيوف على الدوام، فقد كان الناس من القرى البعيدة يفدون إليها قبل السوق بيوم واحد، فيستقبلون فيها، يطعمون وتطعم ركائبهم· ولهذا عقدت الصداقات التي انتهت، في أحيان كثيرة، بالنسب والقربى بين الضيوف ومضيفيهم·
وفي مرات أخرى انتهت تلك الصداقات بالاشتراك في ملكية الأرض وخاصة حين قررت الإمارة تسجيل الأرض بأسماء أصحابها في بداية العقد الثالث من القرن العشرين· لقد كان ذلك القرار الحكومي مدعاة في ذلك الوقت للاستنكار والاحتجاج، إذا أن التسجيل يعني ضرورة دفع الضريبة من قبل المالكين، ولم يقبل به إلا الذين حازوا على أرض لم يكونوا يملكونها من قبل كما كان الحال مع أهلي في قرية بريقا القريبة من الرمثا·
يفتخر أهل حكما بأنفسهم -كانوا جميعا من عشيرة البطاينه في ذلك الوقت- ويرون بأنهم ذوو شجاعة وكرم، ويغضبون إذا أنكر عليهم أحد ذلك· ولكي يستحقوا اعتراف الآخرين بهاتين الصفتين، فقد كانوا كرماء حد المبالغة·
فهم وحسب أنسابهم التي يتداولونها ويورثونها لأبنائهم ينتسبون إلى بني جهم من زعماء اليمن· يتناقلون فيما بينهم قصصا تقوي معتقدهم أن حربا نشبت بين بني جهم حول خلاف على الزعامة في بداية القرن السادس عشر، فهاجر جزء كبير من الذين هزموا نحو الشمال· لكنهم لم يستقروا في مكان، نظرا لطبيعتهم المشاكسة· فما إن يركنوا إلى أرض حتى تبدأ القبائل المضيفة تطاردهم· فهربوا إلى الحجاز أولا ثم إلى جبل العرب في سوريا، ثم جنوبا إلى الأردن و فلسطين، وتفرقوا منذ ما يزيد على ثلاثمائة سنة في كل أصقاع جنوب سوريا·
ولقد عرفوا أنفسهم بأنهم يحمون الجار ويردون العار· ولهذا كانت حكما مقصد كل الذين ينشدون الحماية، ومنهم آل الرواشدة من الشجرة، والزعبية من حريما·

الصفحات