أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

ليست حادثة محمد الرواشدة والخابية حادثة منفردة، فنادرا ما كان طفل في مثل حالتي يتمتع بحنان الكبار وحمايتهم· فقد تزوج سبعة من أعمامي بنات عمهم، فجاء أقراني أولاد عم وأولاد خالات· وكنت لذلك الوحيد بينهم الذي لا ينتسب لهم· فأمي من قرية أخرى ومن عشيرة أخرى· لذلك كثيرا ما كنت أصبح مطاردا إذا اختلفت مع أحدهم، فليست لي من الحقوق بينهم إلا ما لا يكترثون به من تلك الحقوق· ولا أتمتع برفقة واحد منهم إلا إذا كان ضعيف البنية أو كان بعيدا عن الجماعة، أو كان ابن أم غريبة مثلي·
ملجأي الوحيد الذي أهرب إليه كان الطبيعة، أنصب فيها فخاخا لصيد الطيور التي عرفت كثيرا من عاداتها فصار صيدها جزءا من معارفي؛ أو الوقوف طويلا أمام كهف أجده، أي كهف، أو رجم حجارة قديمة علني أرى حية فأظهر لها قطعة قماش حمراء أحتفظ بها في جيبي لكي تترك لي خاتم المنوة؛ أو الجلوس متعبا على التربة الحمراء النقية ألتصق بها وأحس ببرودتها حتى في الصيف تسري تحت جلدي وتعطيني ذلك الاكتفاء؛ أو أذهب لموعد ألتقي فيه رحيلة أو نعيم، رفيقي في الصيد دائما·
وقد كانت محاولة فهم ما يجري في أذهان الحيوانات التي كنا نرافقها ليل نهار داخل بيوتنا وخارجها تشغلني، وربما كانت تلك الحيوانات تقرأ ما يجول في ذهني فتسبقني إلى حيل توقعني في مشاكل كثيرة·
***
لم يكد يمضي النهار حتى كان كل أولاد القرية يعرفون بسفري إلى حيفا· بعضهم جاء يتمسح بي· آخرون كانوا يسألونني عن حيفا، وكيف هي، كما لو أن من الضروري أن أعرف كل شيء عنها لمجرد أنني موعود برحلة إليها·
حدثتهم طويلا عنها، ذلك المساء، على أية حال· تحلقوا حولي على صفاة في وعرة أبو جمعه، وهي تلة صغيرة موازية للتلة التي تتسلق عليها حكما· قلت لهم بأن اسمها هو بلدي المحبوب وديني· رويت لهم قصصا جعلت ابن عمي نعيم- شريكي في نصب الفخاخ لصيد الطيور- يضحك باستغراق ويصر على أسنانه من شدة الإثارة التي كانت تحركها فيه رواياتي·
لم يفهم مسلّم، وهو ابن عمي الآخر، معنى بلدي المحبوب وديني· هو لا يفهم عادة ما يقال له بسرعة كبيرة· إذ يقع ذلك على سمعه كصوت مبهم لا معنى له، فينصت أولا، ثم يبدأ في ترديد الذي قيل عدة مرات، ثم عندما يدرك المعنى المراد، يرفع رأسه ويردد ما قيل دفعة واحدة بلهجة من فهم أخيرا· بقي يردد كلمات على بلدي المحبوب وديني لنفسه بعض الوقت دون أن يتوصل إلى قرارا بشأن هذه الاسم·
ثم تساءل
- من قال لك أن هذا هو اسم حيفا؟
قلت:
- أخي محمد·
لم يكن يعجب مسلم أن يكون في المركز الثاني وخاصة أنه أقوى مني، ويستطيع أن يضربني متى شاء· وكنت أظن بأن قصصي تعجبه كما كانت تعجب نعيم ومنصور وكل الآخرين·
استفسر مني مطأطئ الرأس، كعادته عندما يشعر بالغيرة:
- رايح تشوفه هناك؟
وافترضنا جميعا بأنني سأشوفه· وعندما قمنا نتحرك باتجاه البيت، أمسك نعيم بيدي وبقي ممسكا بها حتى وصلنا· قال
- عند ما تعود نروح مع بعض نصيد البليقيات
شعرت بسعادة كبيرة وتمنيت لو أن أبي سافر بي إلى حيفا قبل أن يطلع نهار الغد·
***
حمّلوا السيارة بأكياس القمح التي سيبيعها أبي في حيفا· كان مع السائق رجل غريب آخر· سألت عنه فقيل أنه معاون السائق وأنه سيبقى معه· سألت أين سوف نركب· لم يجبني أحد· لكني علمت بأننا سنركب على ظهر السيارة بين الأكياس التي صفت بحيث تترك بينها مكانا مذريا يمكن لي ولأبي أن ننام فيه· كان مثل غرفة صغيرة محمية من جميع الأطراف، وضعت أمي فيها فرشة صغيرة ووسائد وأغطية· قال أبي أخيرا:
- يا لله يا جماعة· توكلنا على الله
حملني بين يديه ووضعني على ظهر السيارة في المكان الذي بناه لنا· جلس إلى جانبي ثم أدخلني في فروته الدافئة، كما لو كان يطمئن أمي التي بقيت تراقبنا حتى اختفينا عن نظرها وراء أول منعطف، أنني سأكون بأمان·
تصاعد صوت المحرك متقطعا أول مرة ثم متواصلا حين استوت على الطريق· كان هديرا يصم الأذن يترك في الليل المتراص وراءنا ثقبا لم يغلق· صار واضحا لي على الفور أنه سوف يرافقنا طوال الرحلة· تمنيت لو يختفي الصوت· ولكنه لم يفعل· كان يتقطع أحيانا كما لو كان هناك شيء يحاول أن يعترض طريقه، لكنه ما يلبث أن يعود إلى هديره المتواصل· ثم كان إذا اشتد يشتد معه حولنا تيار الهواء البارد الذي تحميني منه فرة أبي في عشتنا بين أكياس القمح·
هذه هي السيارة، إذن، التي كان يتمنى نعيم ومنصور، أن يركبوها لتنقلهم عبر المسافات دون أن يحركوا قدما، أو يبذلوا جهدا· وعلى الرغم من أنني، بالأمس فقط كان يأكلني شوق لاعتلاء ظهرها، إلا أنني أحسست مع هذا الهدير الذي لا ينقطع وتيار الهواء البارد بأن هذه ليست هي· لازمني شعور، على نحو غامض، بأنني لا أنتسب لهذا المكان الموحش· كما أحسست بأن أبي عاجز عن الخروج بنا مما نحن فيه·
لكن سرعان ما امتلأ رأسي بالهدير فاستسلمت له·

الصفحات