أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

لم افهم شيئا وإن تظاهرت أنني أفعل· رفع الإبرة فتوقف الغناء· أعادها إلى حيث كانت فاستؤنف الغناء· رفع الإبرة فتوقف الغناء مرة أخرى· عندها رفعني بين يديه وصار هو يغني تلك الأغنية التي أعرفها منه على بلدي المحبوب وديني·
عندما يغني أخي محمد يختفي كل شيء إلا صوته ووجهه الحبيب· اجتمع الناس حولنا· عندما توقف صفق الناس من وراء طاولاتهم وداخل دكاكينهم· بعضهم صفّر بوضع أصابعه في فمه تماما كما يفعل الناس في حكما·
***
أخذني أبي صباح اليوم التالي إلى بيت فالح الزعبي، زوج فصل، لنفطر هناك· قال أننا معزومون· كنت أتحرق شوقا لرؤية مضيفنا الذي تعلمت أن أحبه وأحب زوجته· وقد ظننت أنني سأراها أيضا·
كانت فصل امرأة جميلة يحبها أهل حكما، وتحبها أمي بشكل خاص· كثيرا ما قالت أمي أن أهل فصل هم مثل أهلها·
لا أذكر، اليوم، من فصل سوى خلخالها الذي أحاط بساق أبيض لا زال يلمع في ذاكرتي كلما ذكر هذا الاسم ذو الثلاثة حروف فصل·
لقد أصرت، إذا أرادت أن تنزل عن عتبة عقودنا الذي سكنته مدة طويلة، على أن ترفع ثوبها الأسود الطويل قليلا عنه فيلمع الساق الأبيض والخلخال· ولقد تركت في دارنا ضحكة كانت لها رنة كرنة خلخالها، اختزنتهما جدران عقودنا ولا زالتا تعيشان هناك أسمعهما إذا أصغيت·
والزعبية من قرية حريما القريبة من قريتنا· كانوا قد اتهموا بقتل أحد أقربائهم من عائلة أبو علي من نفس القرية·
تقول القصة أن أبو غالب الزعبي شارك في خصام وقع في القرية· لا أحد يعلم ما الذي حصل ولكن ذلك القريب وجد ميتا بعد أن شج رأسه بعبوة· ومن الطبيعي أن تتوجه التهمة لأبو غالب الزعبي، فقد كان هو الذي بدأ الخصام وكان معروفا بقوته، وسرعة غضبه·
طولب الزعبية بالثأر· فجلوا عن ديارهم· كان لا بد أن يفعلوا في الحال حقنا لمزيد من الدم ريثما يتوسط أهل الخير، ويسووا المشكلة· جلوا إلى حكما·
أطلوا علينا من الشمال في ظعن عريض من الحيوانات المحملة بكل أنواع العفش والملابس والأطفال والنساء، يسيرون باتجاهنا على الطريق الضيقة وفي المساحات المفتوحة حولها من كلا الجانبين·
كان على القرية أن تتوزع الجالين· وقيل بأن أصحاب الثأر لن يستدوا لقتيلهم من أبوغالب الزعبي بل سيقتلون إما فالح الزعبي، أو عمه· ولذلك كان على عشيرتنا أن تولي حماية هذين الاثنين عناية خاصة·
أبو غالب، على أية حال، لم يجل مع الجالين إلى حكما وإن كانت قد وصلت معهم زوجته وأولاده الصغار· فقد هرب إلى لبنان وعاش هناك مع الدروز إلى حين·
اقترحوا أن يسكن المطلوبان في عقودنا: فهي محمية بأسوار عالية ويصعب اختراقها· كما سمعت أمي ونساء أعمامي يفتخرن فيما بينهن بأن القعدان قادرون على السهر وحماية دخلائهم من الحائفين
وهكذا صار فالح الزعبي وزوجته فصل جارين لنا يحبهم الجميع·
لقد كان الناس يتسابقون في الأيام الأولى على تزويدهم بالطعام والمؤونة· لكنهم تدبروا أمرهم فيما بعد، وصاروا يدعون الناس على ولائم في بيوتهم·
ولقد كان من بين الجالين في حكما زعبي اسمه سالم العنبر وهو أسود البشرة- أمه سوداء من إفريقيا- معروف بقدرته الفذة على العزف على الربابة وبصوته الجميل وخاصة عندما يغني الهيجنا· كما كان قوي الجسم جسورا أثار خيالنا وأحببناه·
كثيرا ما تسللت وأولاد عمي، في الليل، بين الكبار لنسمع غناءه على الربابة وألحانه الجميلة وقصصه التي كنا نضحك لها كثيرا· كان يستخف بأعدائه من الزعبية الموتورين، يتهددهم دائما، ويؤكد أنه يذهب في الليل إلى حريما كل يوم ويسهر هناك ويعلم الجميع بأنه موجود ولكنهم لا يقدرون على مواجهته·
أثار هذا الجانب منه غضب أعمامي· هدده عمي إبراهيم مرة بأنه إذا لم يتوقف عن اللعب بالنار فسوف يمنعه من الخروج من حكما·
لكن عمي لم يستطيع ذلك دائما، فسالم العنبر يسكن عند القواسمة، قريبا من أولاد وأهل أبو غالب، في بيت يوسف السليمان، الملقب بالجدي،
قصة الجدي هذه هي أن يوسف السليمان كان يحب جديا لهم، عندما كان طفلا صغيرا· وفي يوم ذبحوا الجدي، فبقي يبكي مدة طويلة ينادي به· فإذا حاولوا إسكاته، نظر إليهم مذهولا يردد كلمة واحدة دون غيرها جدي··· جدي··· جدي··· حتى خافت عليه أمه من الاختلال، فاشترت له جديا فقبل به·
والجدي شاب متحمس مثل سالم العنبر وأبو غالب الزعبي، يدبك ويغني، هو الآخر، ومعه بندقية· وقيل أنه كان يرافق العنبر في غزواته إلى حريما·
وفي يوم وفد أبو غالب من هجرته وقرر، إمعانا في التحدي، أن يطحن طحنة لهم في ببور حريما· لم يخف· كان سالم العنبر يصحبه في رحلته تلك دون الجدي، كما اعتاد الأخيران أن يفعلا دائما·
رأى البواعنه القاتل فكمنوا له وقتلوه في أحد الحواكير·
وقد سقط الثأر بموت أبو غالب، فعاد الزعبية إلى قريتهم في نفس اليوم· ولم يلبث فالح الزعبي أن عاد مع أخوته إلى حيفا· فقد كان يعمل هناك من قبل·
سألت أبي إن كنا سنرى خالتي فصل، فأجابني بأن فصل في حريما، وهو في حيفا وحده مع أخوته·
وجدنا في البيت قبلنا رجلا يلبس طربوشا أحمر· عرفته حين رأيته بعد ذلك بعدة سنوات· كان كرديا من أغنياء قرية سحم الكفارات· سلم عليه أبي بحرارة واحترام· وجلس يتحدث معه ويسأله عن سحم وأخوال أبي- جدتي لأبي من طوالبة سحم الكفارات·
دخل علينا فالح الزعبي متهللا كما عرفته دائما يروي قصصا لتأخره عنا· أخذني بين يديه ورفعني ورحب بي بحرارة· التفت إلى ضيفة الكردي، وقال :
- أبو ردن، هذا سميي· اسمه فالح· في كل عائلة كبيرة في قرانا، كما تعرف، اثنان أحدهما يسمى فالح وهو الكبير عادة، ويسمى الأصغر منه فلاح، ثم تتلو أسماء أخرى إذا كان هناك أكثر من أخوين· اسمي كان يوسف· ولكن أمي قررت أن تسميني فالح عندما سموا أخي الأصغر فلاح· قالت: إذا كان هناك فلاح فيجب أن يكون اسم أخيه الأكبر فالح· أستطيع أن أعد لك عشر عائلات من الذين أعرفهم كهذه·
- وهل كل شخص اسمه فالح ذكي، مثل هذا الصغير؟
قالها الضيف وضحك· فرد الزعبي قائلا:
- أؤكد لك ذلك· أنا أيضا ذكي ها!!!!···
وضم كفه نصف ضمة مادا سبابته على طولها وهازا إياها في وجه الضيف مهددا بينما ألحقها بضحكة طويلة·

الصفحات