أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 3

2· المنفى والعودة المستحيلة

تشكّل قضيّة تخيّل الأوطان والأمكنة الأولى، ومنها المدن وما يتّصل بذلك من حنين وشقاء، البؤرة المركزيّة لأدب المنفى، فثمّة تزاحم بين الأوطان والمنافي في التخيّلات السرديّة التي يكتبها المنفيّون· ولكن مَنْ هو المنفيّ الذي ينتدب نفسه لهذه المهمّة، أو يُجبر عليها فيخوض غمارها؟

يُعرف المنفيّ بأنّه الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسيّ إلى المكان الأوّل، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه، وينتج هذا الوضع إحساسًا مفرطًا بالشقاء لا يدركه إلاّ المنفيّون الذين فارقوا أوطانهم، ومكثوا طويلاً مبعدين عنه، فاقتُلعوا عن جذورهم الأصليّة، وأخفقوا في مدّ جذورهم في الأمكنة البديلة، فخيّم عليهم وجوم الاغتراب والشعور المريع بالحسّ التراجيديّ لمصائرهم الشخصيّة؛ إذ عَطِبَتْ أعماقُهم جرّاء ذلك التمزّق والتصدّع، وقد دفع الحنين إلى المكان الأوّل رغبة عارمة لاستدعاء الذكريات الممزوجة بالتخيّلات، فالمنفيّ وقد افتقد بوصلته الموجِّهة، يستعيد مكانًا على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزًا لذاته، ومحورًا لوجوده، فيلوذ بالوهم بحثًا عن توازن مفقود· فهو يُحكم سيطرته على المكان المفقود عبر سيل من الذكريات المتدافعة في سعي للعثور على معنى لحياته، فيغيب المنفى مكانًا يعيش فيه الآن، ويحضر الوطن زمانًا كان فيه من قبل· وفي اللغة العربيّة تحيل مشتقات الفعل نفىعلى دلالة واحدة مترابطة الأطراف، هي: الإبعاد والتنحية والطرد والإخراج والتغريب والذهاب والانتفاء والانعدام· وجميعها تؤكّد حال الانبتات والانقطاع والاجتثاث وعدم المُكنة على التواصل والعجز عنه·

يُكرّس المنفَى شعورًا من عدم الانتماء، فالمنفَى ليس مكانًا غريبًا فحسب، إنّما هو مكان يتعذّر فيه ممارسة الانتماء؛ لأنّه طارئ ومُخرَّب، ومُفتَقر إلى العمق الحميم، بل إنّه يضمر قوّة طاردة في العلاقات القائمة فيه بالنسبة للمنفيّ، ويخيّم عليه برود الأسى وضحالة المشاركة· ولطالما وقع تعارض، بل انفصام بين المنفيّ والمكان الذي رُحّل/ارتحل إليه، وندر أن تكلّلتْ محاولات المنفيّين بالنجاح في إعادة تشكيل ذواتهم حسب مقتضيات المنفَى وشروطه·

ولطالما اتّقد المنفيون حماسة أول عهدهم بالمنافي، إنما لم يعوا أنهم رموا في منطقة مبهمة لا تخوم لها، فمن اختار المنفى فقد راودته الآمال العراض لإجراء تحويل جذري في نمط حياته، واختياراته، ومن دُفع إليه قسرا وجده ضربا من الانتقام الفظيع الذي لا سبيل إلى الاقتصاص منه، لكن المعرفة بالمنفى سرعان ما تراكمت خلال القرن العشرين، وارتسمت معالمها الثقافية، فراودت بعض المنفيين أحلام وردية بعالم جديد ينبثق من أحشاء عالم عتيق لا يقبل الاختلاف، ولا يعترف بالمغايرة، ولا يوفّر أسباب الشراكة في الحقوق، لكن ولادته تعسّرت، ثم تأخّرت، وحينما ظهرا أخيرا جاء هشّا لا طاقة له بقبول الغرباء، وحمايتهم، ناهيك عن الدفاع عنهم، فكان من المنفيين من قبل التواطؤ فوجد فيه خلاصا مؤقّتا لمحو التجارب المريرة التي ذاقها في وطنه، وفيهم من وقع أسير الإغراءات المذهلة للعزلة، ومنهم من أراد الاكتفاء بتحسين أحواله، أو خوض مغامرة، أو ملامسة عالم آخر، لكن مجمل هذه الدوافع المتداخلة ما لبثت أن غدت جزءا من الإستراتيجية التي يمارسها المنفى ضدّ من ينتسب إليه، وهي الانغلاق على من يكون فيه، ووضعه تحت طائلة انتظار دائم، فانتهى الأمر بالمنفيين إلى غير ما صبوا إليه، فقد أصبح المنفى اختيارا غامضا يختلف عمّا كان يُتوقّع منه، لمن أراده أو أُجبر عليه، فتمخّض عن كل ذلك شعور مرّكب من الآمال والإخفاقات، ومن الإقدام والتردّد، ومن الاندماج والعزلة، ومن الاطمئنان والخوف، ومن النبذ والاشتياق، فكان أن تلاشت الفكرة البرّاقة التي اجتذبت المنفيين للعيش في عالم آمن يخلو من مخاوف الأوطان؛ إذ نشأت غيرها في المكان الجديد، وسواء تعايش المرء مع هذه أو تلك، فإن إحساسه المريع بفقدان مكانه أورثه شكّا بأنه خارج الدائرة الحميمة للانتماء البشري·

ومن الحقّ أن توصف حال المنفيّ بأنّها شقاء أخلاقيّ دائم، فالمنفيّ هو منْ اقتُلع من المكان الذي ولد فيه لسبب ما، وأخفق في مدّ جسور الاندماج مع المكان الذي أصبح فيه، فحياته متوتّرة ومصيره ملتبس، وهو يتآكل باستمرار، ولا يلبث أن ينطفئ بالمعنى المباشر، ليتوهّج مرّة أخرى بالمعنى الرمزيّ· فالمنفيّ ينطوي على ذات ممزّقة، لا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها أو مع العالم· ومن المتوقّع أن يقدّم أدب المنفى تمثيلاً سرديًّا عميقًا لهذه الحالات المتضاربة من الرؤى والمصائر والتجارب التي يخوضها المنفيّ، وبخاصّة حينما يلجأ إلى الكتابة السرديّة التي تتعرّض لارتحالاته بين الأمكنة والأزمنة والثقافات واللغات والتقاليد والمجتمعات، والبحث عن موقع له بينها، وكشف موقفه منها، ثمّ الكيفيّة التي يعيد فيها بناء مسار حياته ضمن رؤيته بوصفه منفيًّا يقف على حافة كلّ الحالات، ولا ينخرط فيها·

وقد آن الأوان لتنشيط جدل ثقافي ينتهي بإحلال عبارة كتابة المنْفَى محل عبارة كتابة المهجر لأن الثانية تخلو من المحمول الذي جرى وصفه من قبل، فيما الأولى مشبعة به، فهو يترشّح منها حيثما درست مستوياته الدلالية، ووقع تأويله، وعليه فـأدب المنْفَى يختلف عن أدب المهجر اختلافا واضحا، كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفِيّ في العالم الذي أصبح فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره·

عرض تودوروف في سياق بحثه عن الصلة بين الأنا والآخر لشخصيّة المنفيّ، وحاول أن يحدّد ملامحها بالصورة الآتية: تشبه هذه الشخصيّة (المنفيّ) في بعض جوانبها المُهاجر، وفي بعضها الآخر المُغرَّب· يقيم المنفيّ مثل الأوّل في بلد ليس بلده، لكنّه مثل الثاني يتجنّب التمثّل، غير أنّه وخلافًا للمُغرَّب، لا يبحث عن تجديد تجربته وزيادة حدّة الغربة، وخلافًا للخبير، لا يهتمّ خصوصًا بالشعب الذي يعيش بين أفراده

وبعد هذا التحديد الذي تقصّد تودوروف فيه أن يبيّن فيه أوضاعًا متزحزحة للشخصيّات التي من خلالها يمكن أن تنبثق شخصيّة المنفيّ، مضى قائلاً بأنّ المنفيّ هو الشخص الذي يفسّر حياته في الغربة على أنّها تجربة اللاانتماء لوسطه، والتي يحبّها لهذا السبب نفسه· المنفيّ يهتمّ بحياته الخاصّة، بل وبشعبه الخاصّ، ولكنّه أدرك أنّ الإقامة في الخارج هناك حيث لا ننتمي أفضل لتشجيع هذا الاهتمام· إنّه غريب، ليس مؤقّتًا بل نهائيّا· يدفع هذا الشعور نفسه، وإن يكن على نحو أقلّ تطوّرا، بالبعض إلى الإقامة في المدن الكبيرة حيث يحول الإغفال دون أيّ اندماج كامل في الجماعة ويضيف يكمن الخطر في وضع المنفيّ··في إنّه يتخلّى دفعة واحدة عن العلاقات القويّة التي تربطه بهؤلاء الآخرين الذي يعيش بينهم ثمّ يختم قد يشكّل المنفَى تجربة سعيدة، لكنّه بالتأكيد ليس اكتشافًا للآخرين(4)·

وشغل هذا الموضوع إدوارد سعيد فتطرّق إلى بواعث النفي وآثاره، النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائمًا على وجهه، بعيدًا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حدٍّ ما أن يصبح منبوذًا إلى الأبد، محرومًا على الدوام من الإحساس بأنّه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزّيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقلّ ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل

الصفحات