أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 7

4· المنفى وانزياح الهُويّة

وعلى هذه الخلفيّة من الشعور المتفاقم بالفقدان، وكون المرء عالقًا في منطقة ينتمي/ ولا ينتمي فيها إلى أمكنة وثقافات متعدّدة، تتنزّل السيرة الذاتيّة لسعيد، فتثير إحدى أهمّ المشاكل الخاصّة بكتابة المنفى، قصدتُ بذلك العلاقة مع المكان من وجهة نظر المنفيّ، وكيفيّة تشكيل الهُويّة الشخصيّة المنزاحة لرجل يقيم علاقة هشّة معه، فهو لم يدّخر جهدًا في تصوير علاقته الواهنة بالأمكنة، وتوسيع دلالتها ليجعل منها فضاءات ثقافيّة، مصوّرًا نفسه عالقًا بينها، ومن خلال ذلك ينزلق إلى المنطقة الجوهريّة في أيّة سيرة ذاتيّة، وهي تكوين الذات في وسط أسريّ واجتماعيّ قلق ضمن حقبة تاريخيّة متقلّبة جعلت المصيرين العائليّ والاجتماعيّ في وضع متأرجح بين المنفى كمكان غير محدّد الملامح، وفقدان الوطن، والتفكّك الذي مثّله غياب الداعمين الأساسيّين له، وهما الأب والأمّ، ثمّ تجربة المرض بالسرطان، وهي التي فرضت الشروع بكتابة السيرة، وحدّدت شروطها، وكلّ ذلك جعل من كتاب خارج المكان كما يقول مؤلّفه، عبارة عن سجلّ لعالم مفقود أو منسيّ(20)·

حضر العالم الذي استعاده سعيد بالسرد على خلفيّة إحساس بالغياب النهائيّ عن العالم الحقيقيّ، منذ عدّة سنوات، تلقّيتُ تشخيصًا طبّيًّا بدا مُبرمًا، (اكتشاف إصابته بسرطان الدم في خريف عام1991)، فشعرتُ بأهميّة أن أخلّف سيرة ذاتيّة عن حياتي في العالم العربيّ، حيث ولدتُ وأمضيتُ سنواتي التكوينيّة، كما في الولايات المتّحدة، حيث ارتدتُ المدرسة والكلّيّة والجامعة· العديد من الأمكنة والأشخاص التي أستذكرها هنا أصبحت غير موجودة، على الرغم من أنّي أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أيّ مدى أستبطنها، وغالبًا بأدقِّ تفاصيلها، بل بتشخيصاتها المرّوعة(21)·

أوّل الصعاب التي تواجه شخصًا اتّصل بأمكنة ولغات متعدّدة وانفصل عنها في وقت واحد، هو الموقع الذي ينظر من خلاله إلى تجربة حياته الآفلة، وإلى تجارب الآخرين المحيطين به، فقد شرع سعيد في كتابة السيرة وهو في أميركا يكافح مرضًا لا سبيل للنجاة منه، عن حياته طفلاً وصبيًّا وشابًّا قبل أكثر من خمسين سنة في القدس والقاهرة وضهور الشوير( في لبنان)، وما كان يثيره ويشغله في الوقت نفسه بوصفه كاتبًا تتناهبه مؤثّرات المكان واللغة، هو إحساسي بأنّي أحاول دائمًا ترجمة التجارب التي عشتها لا في بيئة نائية فحسب، وإنّما أيضًا في لغة مختلفة· ذلك أنّ كلاًّ منّا يعيش حياته في لغة معيّنة، ومن هنا فإنّ الكلّ يختبر تجاربه ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات·

والانفصام الكبير في حياتي هو ذلك الانفصام بين اللغة العربيّة لغتي الأمّ، وبين اللغة الإنجليزيّة وهي اللغة التي بها تعلّمتُ وعبّرتُ تاليًا بما أنا باحث ومعلّم؛ لذا كانت محاولتي سرد التجارب التي عشتها في اللغة الأولى بواسطة اللغة الأخرى مهمّة معقّدة، ناهيك عن الطرائق المختلفة التي بها تختلط عليّ اللغتان وتعبران من حقل إلى آخر··إلى جانب اللغة كانت الجغرافية في مركز ذكرياتي عن تلك السنوات الأولى، خصوصًا جغرافية الارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن وانتماء، ناهيك عن السفر ذاته· فكلّ واحد من الأمكنة التي عشت فيها - القدس والقاهرة ولبنان والولايات المتّحدة - يملك شبكة كثيفة ومركّبة من العناصر الجاذبة، شكّلتْ جزءًا عضويًّا من عمليّة نموّي، واكتسابي هُويّتي، وتكوين وعيي لنفسي وللآخرين(22)·

وقد أسهب سعيد في وصف هذه الخلفيّة المركّبة، وهو يعيد تخيّل وقائع حياته، مشيرًا إلى أثر التعليم الاستعماريّ في صوغ تجربته الثقافيّة والشخصيّة القلقة، ومستعيدًا علاقته باللغة بوصفها وسيلة تمثيل لتجاربه الخاصّة والعامّة، الفارق بين الإنجليزيّة والعربيّة يتّخذ شكل توتّر حادّ غير محسوم بين عالمين مختلفين كليًّا بل متعاديين: للعالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأوّليّة الحميمة- وهي كلّها عربيّة - من جهة، وعالم تربيتي الكولونياليّ وأذواقي وحساسيّاتي المكتسبة ومجمل حياتي المهنيّة معلّماً وكاتباً من جهة أخرى· لم يُعْفني هذا النزاع منه يومًا واحدًا، ولم أحظ بلحظة راحة واحدة من ضغط واحدة من هاتين اللغتين على الأخرى، ولا نعمتُ مرّة بشعور من التناغم بين ماهيّتي على صعيد أوّل وصيرورتي على صعيد آخر·

وهكذا فالكتابة عندي فعل استذكار، وهي إلى ذلك فعل نسيان، أو هي عمليّة استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة، لذا ساورني شعور عظيم بالارتياب عندما أقدمتُ على تأليف هذا الكتاب عن حياتي المبكّرة، وقد عشتها في معظمها في القدس والقاهرة وضهور الشوير؛ إذ أدركت أنّني مُقدِم على عمل متناقض جذريًّا، هو إعادة بناء عالم في مصطلحات عالم آخر· كان لي أن استخدم اللغة الإنجليزيّة، ولكن كان عليّ أن أستذكر التجارب، وأعبّر عنها بالعربيّة· طبعًا، كان من العبث إنكار التغاير والتباعد الكاملين بين هذين العالمين·

ولكن لا يعقل أن يكونا منفصلين أحدهما عن الآخر، كأنّما نتيجة لعمليّة بترٍ جراحيّة، ما داما قد تعايشا سنوات وسنوات داخل شخص واحد· الأحرى أنّهما كانا جسمين متوازيين بل توأمين، يتحسّس واحدهما أيديولوجيًّا وروحانيًّا كلّ عنصر غريب يتعذّر استيعابه عند الآخر، وينفعل إزاءه· لقد اختبرت دومًا ذلك الشعور بالغربة المزدوجة· فلا أنا تمكّنتُ كليًّا من السيطرة على حياتي العربيّة في اللغة الإنجليزيّة، ولا أنا حقّقتُ كليًّا في العربيّة ما قد توصلتُ إلى تحقيقه في الإنجليزيّة· هكذا طغى على كتاباتي كمٌّ من الانزياحات والتغايرات والضياع والتشوّه، ولكنّي كنت مدركًا في الأقلّ لكلّ ذلك، وقد حاولت استظهاره في مؤلّفاتي· فالذي عشته صبيًّا في البيت مع شقيقاتي وأهلي مثلاً، اختلفَ كليًّا عمّا قرأته وتعلّمته في المدرسة· تلك الانزلاقات والانزياحات هي قوام هذا الكتاب، وهي السبب الذي يحدوني إلى القول إن هُويّتي ذاتها تتكوّن من تيّارات وحركات، لا من عناصر ثابتة جامدة(23)·

هذا الموقع المنزلق دائمًا خارج أيّ مكان- وقد برع سعيد في وصفه بالتفصيل كما رأينا- انعكس أثره مباشرة في التوتّر الذي يشوب السيرة بكاملها، إلى ذلك فقد كتب النصّ في ظلّ مرض عُضال لا سبيل إلى وقف زحفه، فقد ربط سعيد كتابه بمرضه· وهذه هي التفاصيل التي حدّدت الإطار الخارجيّ والمباشر لكيفيّة تأليف الكتاب بوصفه معادلاً لتآكل ذاتيّ متواصل، فقد كانت الكتابة الوسيلة الوحيدة التي أفسّر بها لنفسي وللقارئ مدى ارتباط زمن هذا الكتاب بزمن مرضي بحقباته وطلعاته ونزلاته وتقلّباته كافّة· فمع تزايد ضعفي، وتكاثر الالتهابات وطفرات الآثار الجانبيّة للمرض، ازداد اتّكالي على هذا الكتاب وسيلة أبتني بها لنفسي شيئًا ما بواسطة النثر، فيما أنا أعارك في حياتي الجسمانيّة والعاطفيّة هواجس التدهور وآلامه· وقد انحلّت المهمّتان إلى مجموعة من التفاصيل: فالكتابة انتقال من كلمة إلى كلمة، ومكابدة المرض اجتياز لخطوات متناهية القصر تنقلك من حالة إلى أخرى···والغريب في الأمر أنّ كتابة هذه السيرة ومراحل مرضي تتزامن تمامًا، مع أنّ معظم آثار مراحل مرضي قد محت من هذه السيرة عن حياتي المبكّرة· وعلى الرغم من ذلك، فسجلّ حياتي ذاك ومسار مرضي هذا (الذي عرفت منذ البداية أن لا شفاء منه) هما كلّ واحد، بل يمكن أن يقال إنهما متماثلان ومختلفان قصدًا(24)·

الصفحات