أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 10

وفي النهاية رسم سعيد للمتلقّي كمًّا كبيرًا من الصياغات الأبويّة والأموميّة المتواصلة لكينتوته الخارجيّة والداخليّة، ما أدّت قطّ إلى تحقيق غاياتها، بل تحقّق عكس ذلك، فلا هو بالمستقرّ الثابت في مكانه، ولا هو بالمنجرف إلى الهاوية، بل مكث متأرجحًا بين هذا وذاك، فيهما وخارجهما في الوقت عينه، كان أبي هو الذي بادر تدريجيًّا إلى محاولة إصلاح جسدي، بل وإعادة تكوينه من الأساس· على أنّ أمّي نادرًا ما اعترضت على ذلك، بل أخذت تدور بجسدي بانتظام من طبيب إلى آخر· وإذا استذكر وعيي لجسدي منذ سن الثامنة فصاعدًا، أراه منحبسًا في نظام صارم من التصحيحات المتكرّرة، تمّت كلّها بأمر من أهلي، وأدّى معظمها إلى تفاقم نقمتي على ذاتي، ذلك أنّ إدوارد كان قد حلّ في كيان بشع مشوّه يشكو من كلّ العلل أو يكاد

كشفت الرواية الاستعاديّة التي قدّمها سعيد عن صباه ومراهقته أنّ الأبوين وقعا أسرى وهمٍ مؤدّاه اعتباطيّة التشكيل الجسديّ لابنهما، وسرعان ما صدّق الجميع إنّه موطن أمراض وتشوّهات لانهائيّة، منها: أنّ قدماه مسحاوان، ولديه رعشة غير إراديّة عند التبوّل، وألم في المعدة، وضعف في البصر، ووجود كدس من الشعر النامي بين الفخذين، والتواء في القامة، وكبر في الصدر، وضخامة في الكفّين، وقضم للأظافر، ولم يعدم وجود عُقد نفسيّة، وقد جرى مراجعة عدد من الأطباء لإصلاح كلّ تلك العلل، وقَبِلها هو صاغرًا مفترضًا أنّها جميعًا من مقوّمات عمليّة تهذيب لا بدَّ أن يمرّ بها المرء كجزء من مرحلة النمو· فإذا النتيجة الصافية لتلك الإصلاحات تعمّق ارتباكي وخجلي من ذاتي

بقيت تلك الإصلاحات العبثيّة شاخصة في ذاكرته، ولم يغفر لأبويه التنازع على جسده، وفرض الإصلاحات والعقوبات عليه، وجعله موطن شبهات لا تحصى، فكلّ ذلك رسّخ لديه شعورًا بالخوف العميم الذي قضيتُ معظم حياتي أحاول التغلّب عليه· وما أزال أفكّر أحيانًا أنّي جبان، تتوعّدني كارثة جبّارة ضامرة تتحفّز للانقضاض عليّ بسبب ذنوب ارتكبتها وسوف أعاقب عليها لا محالة في القريب العاجل(32)·

6· المنفى وثنائيّة الرفعة والدونيّة

وخارج مجال الجسد نشأ سعيد في عالم أسريّ مغلق يدار بإحكام، لشدّة ما كنت محميًّا ومُحتجزًا داخل ذلك العالم الصغير الذي بناه أهلي، لازمني شعور بأنّ وراء حدود العادات والرحلات المبرمجة بدقّة متناهية عالمًا كاملاً يتأهّب لاختراق السدود ليغمرنا، بل ليجرفنا جرفًا تحت لُجَجه فارتسم له عالم القاهرة عدائيًّا وغير مؤتمن، وينبغي الحذر منه؛ إذ كُبتتْ رغباته بضغط أسريّ مفرط في صرامته، فمع أنّ كلّ شيء في القاهرة كان يغريه، لكنّ حياته كانت خاضعة لرقابة كاملة، لم أخرج مرّة مع فتاة، بل لم يسمح لي بأن أزور أماكن اللهو العامّة والمطاعم، ناهيك عن ارتيادها· وكان والداي يتناوبان على تحذيري دائمًا من الاقتراب من الناس في الباص أو الحافلة، ومن تناول المشروبات أو الأطعمة من محلّ أو بسطة، والأهمّ أنّهما صوّرا لي بيتنا والعائلة على أنّهما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا(33)·

حُجز سعيد خلف جدران عالية أخذتْ بها أسرة متوسطة الحال تنتمي إلى أقليّة شاميّة مهاجرة، لم تتوافر لها ظروف الاندماج بالمجتمع المصريّ، وظلّت علاقتها مضطربة بكلّ من السكان الأصليّين والإدارة الاستعماريّة· والشوام أقليّة ظهرت في مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، وتكاثرت في نصفه الثاني، ولكنّها بقيت خارج المجال الأهليّ المتماسك، ونُظر إليها باعتبارها داعمة للاستعمار، فيما لم تنظر إليها الإدارة الاستعماريّة إلاّ بوصفها جزءًا من تشكيل الأقليّات الأجنبيّة· والحال أنّها كانت أكثر قربًا من الناحية الذهنيّة للأقليّات الأجنبيّة منها للمصريّين، وقد شكّل الشاميّون في مصر عالمًا خاصًّا غلّفه حسّ بالاغتراب، والعزوف عن الاندماج والشعور بدرجة من التعالي، بسبب الهجنة التي جعلتهم في منتصف الطريق بين الأجانب الغربيّين والأهالي، فذاكرة تلك الأقليّة استمدّت وجودها من الأصول الشاميّة، ولكنّه وجود منشبك بالمصالح الغربيّة· وهذا الوضع غير المستقر جعلها أسيرة نوع من الانكفاء الحذر على الذات·

الصفحات