أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 5

خلع إدوارد سعيد على المنفيّ الميزة المتفرّدة، بقوله: يعلم المنفيّ أنّ الأوطان في العالم الدنيويّ عارضة ومؤقّتة· بل إنّ الحدود والحواجز يمكن أن تغدو سجونًا ومعازل، وغالبًا ما يُدافع عنها، وتُحمى بلا مبرِّر أو ضرورة· أمّا المنفيّون فيعبرون الحدود، ويحطّمون حواجز الفكر والتجربة(9)· وكلّ ذلك له صلة بفكرة الانتماء التي تتلاشى عند المنفيّين بمعناها المباشر، فتصبح الهُويّة رماديّة، تطوي في داخلها هُويّات متمازجة كثيرة، وربّما متناقضة·

ويتميّز أدب المنفى بأنّه مزيج من الاغتراب والنفور المركّب؛ لكونه نتاجًا لوهم الانتماء المزدوج إلى هُويّتين أو أكثر، ثم في الوقت نفسه عدم الانتماء لأيّ من ذلك، بل إنّه أدب يستند في رؤيته الكلّيّة، إلى فكرة تخريب الهُويّة الواحدة والمطلقة، وبصفته تلك فهو أدب عابر للحدود الثقافيّة والجغرافيّة والتاريخيّة، ويخفي في طيّاته إشكاليّة خلافيّة؛ لأنّه يتشكّل عبر رؤية نافذة ومنظور حادّ يتعالى على التسطيح، ويتضمّن قسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفيّ، ولكلِّ من الجماعة التي اقتُلع منها والجماعة الحاضنة له، لكنّه أدب ينأى بنفسه عن الكراهية والتعصّب، وهو يتخطّى الموضوعات الجاهزة والنمطيّة، ويعرض شخصيّات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليديّة، وفي الوقت نفسه ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانيّة·

3· السيرة والمنفى: تفاعلات متبادلة

تقع السير الذاتيّة للمنفيّين في قلب المدوّنة السرديّة لأدب المنفى، ومعلوم أنّ أدب السيرة يظهر في إطار التعبير الشخصيّ الذي يفرضه الوعي الذاتيّ، وهو يبحث عن معنى لتطوّره عبر الزمن، ولهذا يقول جورج ماي بأن أقوى البواعث الباطنيّة على كتابة السيرة الذاتيّة، حاجة المرء إلى العثور على معنى لحياته المنقضية أو على إعطائها شكلاً مخصوصًا(10)· وفكرة البحث عن معنى مخصوص لتجربة الحياة، بعد أن توارت متمزّقة بين الأوطان والمنافي، تستأثر باهتمام المنفيّين أكثر من سواهم؛ لأنّ تجاربهم تتنزّل في منطقة البحث عن معنى معيّن فرضه المنفى؛ فتأثير المنفَى وإعادة صوغه للشخصيّة، يترك بصمة لا تُمحى في تحديد معالم تلك التجربة، وفي طريقة النظر إليها، وفي استخلاص التجربة الكبرى منها، وفي كيفيّة كتابتها·

في سيرته الذاتيّة خارج المكان عرّج إدوارد سعيد على ذكر كثير من ذلك، وأوّل ما يلفت الانتباه حرصه على رسم الأطر العامّة التي حدّدتْ نزوعه ليس في اعتبار كتابة سيرته معادلاً لانهياره الجسديّ بسبب مرض السرطان فحسب، إنّما في الوصف المُسهب للنزوح المكانيّ المتواصل، والإزاحات اللغويّة التي سبّبتها التجربة الاستعماريّة، ثمّ تأثير كلّ ذلك في صوغ علاقته بنفسه وبأسرته وبالأمكنة المفقودة· وفي جميع ذلك ظهر سعيد منقسمًا على نفسه بين قوّة مستترة وضعف معلن، فلا هو قادر على الإفصاح عن قوّته الجوّانيّة - وهو ما يقع الاحتفاء به عادة في السير الذاتيّة - ولا هو متمكّن من ستر الوهن العميق الذي يجتاح أعماقه - وهو ما يجري غالبًا طمسه في الكتابة السيريّة - فكلّ قوّة طبيعيّة في داخله كبحها ضغط خارجيّ فرضته التربية العائليّة الصارمة، ولم تُتح له فرص التفتّح والمشاركة، إنّما الانكفاء على الذات وتكبيل الرغبات· وبمرور الزمن فإنّ كلّ ضعف تسببتْ به تلك التربية استُبدل بقوّة خارجيّة أمكن تحويرها لتحرّر سعيد المثقّف من هشاشته الداخليّة المرتبكة، وتجعل منه شخصيّة ثقافيّة وأكاديميّة صلبة وحادّة وعنيفة وسجاليّة في مواقفها وأفكارها· إلى كلّ ذلك كشفت سيرته طبيعة الصلة المعقّدة بين المنفَى والكتابة، وموقع المنفيّ فيهما، ونوع التصدّعات الجوّانيّة التي لحقت به جرّاء كلّ ذلك· وقد اهتبل الفرصة كاملة فشرح كلّ ذلك وعرض له باستفاضة لم تنقصها الجدّيّة والوضوح·

يكمن مفتاح سيرة إدوارد سعيد في محفِّزها الأساسيّ، وتمثّله العلاقة الافتراضيّة التي ربطته بـجوزيف كونراد وهي علاقةُ مُماثَلَةٍ وربّما مُطابقة، ظلّ سعيد يحيل عليها بكثير من الاحتفاء، والإصرار والتكرار، وإليها أرجع موقعه في الثقافة، بل ورؤيته للعالم وصلته باللغة بوصفها أداة تمثيل وتعبير، فما برح كونراد مُلهمًا لسعيد في تحديد نوع العلاقة بين الكاتب والعالم، منذ أوّل مؤلّف ظهر له· وهذه العلاقة هي المفتاح الأنسب الذي به يمكن الدخول إلى عالم سعيد كما قامت سيرته الذاتيّة بتمثيله·

ففي مقالته بين عالميّن التي وردت في كتابه تأمّلات حول المنفى، صرّح بأنّه منذ أوّل كتاب كتبه، وهو جوزيف كونراد وقصّ السيرة الذاتيّة، استخدم كونراد مَثلاً لمن تبدو حياته وعمله تجسيدًا لمصير المتجوّل الذي يغدو كاتبًا بارعًا بلغة أخرى مُكتَسَبة، لكنّه لا يقوى مطلقًا على زعزعة إحساسه بالاغتراب في موطنه الجديد -أي المُكتَسَب- والمثير للإعجاب في حالة كونراد الخاصّة، فجميع أصدقاء كونراد قالوا إنّه كان راضيًا أشدَّ الرضا حيال فكرة أن يكون إنجليزيّا، على الرغم من أنّه لم يفقد أبدًا لكنته البولنديّة الثقيلة ونكده المميّز تمامًا، والذي أعتقدُ أنّه غير إنجليزيّ إلى أبعد الحدود· غير أنّ مَنْ يدخل كتابتَه لا بدَّ أن يلمس مباشرة جوّ الانخلاع وعدم الاستقرار والغربة، الذي لا مجال للخطأ فيه· فما مِنْ أحدٍ أمكَنه أن يمثّل مصير الضياع وفقدان الوجهة بأفضل ممّا فعل، وما مِنْ أحدٍ كان أشدّ سخرية حيال السعي وراء تغيير ذلك الشرط بترتيبات وتكيّفات جديدة· لا تني تغري المرء بالوقوع في مزيد من الشراك(11)·

الصفحات