أنت هنا

قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السرد والاعتراف والهوية

السرد والاعتراف والهوية

كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
3.333335
Average: 3.3 (3 votes)
الصفحة رقم: 9

وارتسم تأثير الأب والأمّ عميقًا في حياته، وهو تأثير متناقض يخرّب بعضه، ولا يعرف الاستقامة، ويتعذّر حلّه، فلم يخالجه إحساس بالبهجة في علاقته بأبيه: مهما تكن الوقائع التاريخيّة الفعليّة، يبقى أنّ أبي كان مزيجًا طاغيًا من القوّة والسلطان ومن الانضباط العقلانيّ والعواطف المكتومة· وقد أدركت لاحقًا أنّ هذه جميعًا قد طبعت حياتي ببعض الآثار الإيجابيّة، ولكنّها لم تعفني من الكوابح والمعوّقات· ومع تقدّمي في العمر، توصّلت إلى تحقيق التوازن بينها، على أنّي عشت محكومًا بها من الطفولة حتى سنّ العشرين· فقد بنى لنا أبي بمساعدة أمّي، عالمًا كان أشبه بشرنقة جبّارة أدخلت إليها، وحبست فيها بكلفة باهظة، أو هكذا أرى الآن إلى تلك التجربة إذ أستعيدها بعد نصف قرن· وما يثير دهشتي الآن، إضافة إلى صمودي، هو نجاحي بطريقة ما خلال أداء عقوبتي داخل ذلك النظام، في أن أربط بين مصادر القوّة الكامنة في تعاليم أبي الأساسيّة، وبين قدراتي الشخصيّة التي عجز هو عن التأثير فيها، وربّما عجز أيضًا عن إدراكها(28)·

وراح سعيد يفصّل ذلك بقوله: هيمنت قوّة أبي المعنويّة والجسديّة على طفولتي ونشأتي· كان له ظهر ضخم وصدر برميليّ نافر يوحي بالعصيان، رغم قصر قامته، ويوحي بالثقة الطاغية بالنسبة إليّ على الأقلّ· على أنّ أبرز صفاته الجسديّة مشيته المتيبّسة كقضيب، والمنتصبة على نحو يكاد أن يكون كاريكاتوريًّا· إلى هذا، وبالمقارنة مع جبني وخجلي الانكماشيّين والعصابيّين، كان يتمتّع بنوع من التيه يناقضني تناقضًا صارخًا؛ إذ لا يبدو إنّه يخشى اقتحام أيّ مكان أو الإقدام على أيّ فعل- وهما أكثر ما أخشاه· ولم يقتصر الأمر على أنّي لم أكن مقدامًا··وإنّما كنت أتحاشى جدّيًّا نظر الناس لشدّة تحسّسي لنواقصي الجسمانيّة اللامتناهية، وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأنّها جميعًا انعكاس لنواقصي الجوّانيّة(29)·

واضح أنّ الأبوّة تجسّدت بالقوّة المظهريّة الخارجيّة، فيما عُبّر عن البنوّة بالهشاشة الشعوريّة الداخليّة· وحينما نقوم بتنضيد صفات الاثنتين، نجد أنّ الأبوّة تتمثّل بالضخامة والنفور والعصيان والطغيان والانتصاب والتيه والإقدام والاقتحام، أمّا البنوّة فمكوّناتها الشعور الانكماشيّ بالجبن والخجل إلى درجة العُصاب·

وفي مقابل هذا الهشيم الداخليّ الذي خلّفه الأب في أعماق سعيد، ظهرت الأمّ بوجه مغاير، لكنّه مزيج من الحبّ والحبور والكبح والغموض، المؤكّد أنّ أمّي كانت الرفيق الأقرب إليّ والأكثر حميميّة خلال ربع قرن من حياتي· وأشعر أنّي مطبوع بالعديد من وجهات نظرها وعاداتها التي لا تزال تسيّر حياتي: من قلق يشلُّ إرادتها إزاء احتمالات التصرّف، إلى أرق مزمن، معظمُه فرضته على نفسها فرضًا، وعدم استقرار عميق الجذور يضارعه مخزون لا ينضب من الحيويّة الذهنيّة والجسديّة، واهتمام عميق بالموسيقى واللغة وبجماليّات المظهر والأسلوب والشكل، وربّما أيضًا من ميلٍ متضخّم إلى الحياة الاجتماعيّة بتيّاراتها وملذّاتها وما تحمله من طاقة على السعادة والحزن، ونزوع لا يرتوي - ومتعدّد الأساليب إلى حدٍّ لا يصدّق - إلى تنمية الوحدة، بما هي شكل من أشكال الحرّيّة والعذاب في آنٍ معًا·

ولو أنّ أمّي كانت مجرد ملجأ، أو مأوى آمنٍ، أفيء إليه بين حين وآخر هربًا من مرور الأيّام، لما استطعت التكهّن بالنتائج، إلاّ أنّها كانت تحمل أعمق الالتباسات التي عرفتُها، وأكثرها إشكالاً تجاه العالم وتجاهي أنا شخصيًّا· فعلى الرغم من الألفة بيننا، كانت تطالبني بالحبّ والتفاني، وتعيدهما إليّ أضعافًا مضاعفة· على أنّها قد تصدّ مشاعري فجأة، باعثة رعبًا ميتافيزيقيًّا في أوصالي لا أزال أتمثّله بانزعاج شديد، بل برهبة قويّة· فبين ابتسامة أمّي المقوّية وعبوسها البارد أو تكشيرتها المتعالية المديدة، وُجِدتُ طفلاً سعيدًا وعظيم اليأس في آن معًا؛ فلم أكن هذا أو ذاك على نحو كامل(30)·

وُضعَت الأمومة في تعارض مع الأبوّة، وفي مقام الغموض مع البنوّة، فلقد رأينا قبل قليل، كيف أنّ الأبوّة لم تكفِ عن التعبير عن نفسها بشكل مباشر قصد أن تكون أنموذجًا يحتذى في علاقة التبعيّة بين الأب والابن، فلكي يكون سعيد طفلاً بارًّا عليه تبنّي مبدأ محاكاة الأب في سلوكه العامّ، وهو سلوك يخرّب هدفه بنفسه؛ إذ لا تستقيم تربية في ظلّ الهيمنة، ولا يتكوّن استقلال بوجود التبعيّة، وكلّ ذلك أدى إلى نتائج تخالف مقاصد الأبويّة؛ إذ تكرّست الهشاشة الجوّانيّة، وسائر ضروب الانكسار الداخليّ المرافق لها من تردّد وخوف وخجل وعجز·

لم يتحقّق مقصد الأبوّة؛ لأنّ مضمون المحاكاة فيها نزع إلى التقليد الأعمى، وليس التمرّس على مواجهة الصعاب· على أنّ الأمومة لم تكن أقلّ ضررًا من الأبوّة في نزوعها الجارف إلى زرع خِصال لا تقلّ خطرًا، فبتعارض مع صورة الأب الواضحة جرى بناء صورة الأمّ الغامضة التي كانت تريد لطفلها أن يتشرّب مبدأ المحاكاة نفسه، ولكن بمضامين مختلفة؛ إذ غذّت صغيرها بنظام صارم من العادات الشخصيّة بدأت بالحيرة والسُّهاد والقلق، ومرّت بشغف مفرط بالجماليّات الشخصيّة والتعبيريّة، والمظاهر الخادعة، وانتهت بالعزلة المعذِّبة· ثم، وهذا هو اللبّ الخطير في الأمر كلّه، جُمع كلّ ذلك ورمي الطفل به باعتباره حنانًا أموميًّا صادقًا، وحينما توهّم صدق ذلك ببراءة، ورغب في التفاعل معه، لم يجد إلاّ صدًّا وعبوسًا، فقد كان يتطلّع إلى مشاطرة الأحاسيس مع أمّه، لكنّ مشاعره كانت تُردّ وتُرفض وتُكبح، فيقع في المنطقة المعتمة بين السعادة واليأس، والأمل والقنوط· ومن الصعب أن تغدق على طفل بمشاعر خاصّة، ثمّ تفيض عليه بأحاسيس متضاربة، وتحول دون مشاركته· وهذا النمط المقترح من العلاقة الأموميّة، أفضى إلى تبعيّة أخرى مغايرة لتبعيّة الأب، وأكثر خطرًا منها، كما سنرى·

ولكن من المفيد أن نترك لسعيد إضاءة جوانب خافية من العلاقة مع أمّه: تراءت لي أمّي امرأة في مقتبل العمر، غير معقّدة موهوبة محبّة جميلة· وإلى حين بلوغي سنّ العشرين، وقد بلغت هي الأربعين، كنت أراها في تلك الصورة، فلا ألومن إلاّ نفسي إن هي انقلبت شخصًا آخر· بعد ذلك، ارتسمت ظلال داكنة على علاقتنا· ولكنّي، وأنا في مقتبل العمر، غمرتني حال من الحبور بسبب التناغم الهشّ والمؤقّت جدًّا القائم بيني وبين أمّي، إلى درجة أنّه لم يكن لي فعلاً أصدقاء من عمري··إلى أمّي حصرًا كنت أتوجّه للرفقة الفكريّة والعاطفيّة· وهي تقول إنّها مُذ فقدتْ طفلها الأوّل في المستشفى بعيد ولادته، أخذت تغدق عليّ جرعات زائدة من العناية والاهتمام· على أنّ هذه المبالغة لم تكن لتحجب تشاؤمها الداخليّ الشديد الذي كان يموّه غالباً إعلاناتها الإيجابيّة عنّي

إنّه حبّ مشوب بغموض تعذّر على سعيد تفسيره، فدمغ حياته بالحيرة، وفّر لي دفء أمّي السائغ الفرصة النادرة لأكون الشخص الذي كنت أشعر حقيقة بأنّني إيّاه، بالمقارنة مع إدوارد الفاشل في المدرسة والرياضة والعاجز عن مجاراة الرجولة التي يجسّدها أبوه· على أنّ علاقتي بها ما لبثت أن ازدادت التباسًا مع الوقت، وصارت إدانتها لي أشدّ تدميرًا من الناحية العاطفيّة من تنمّر أبي وتأنيبه، فقد كانت تعلن خيبتها بأولادها جميعهم، وتزرع الشقاق فيما بينهم في تقلّباتها العاطفيّة التي تربطها بهم، ظلّت أسباب خيبتها فينا، ومن ثَمّ فيّ أنا شخصيًّا سرّها الدفين، وسلاحًا في ترسانتها تُشهره للتلاعب بنا وإفقادنا التوازن وبذر الشِقاق بيني وبين شقيقاتي وبيننا وبين العالم وذلك أورث الأطفال إحساسًا بالتنابذ والتفارق والانشقاق، لم نتعانق كما هي عادة الأشقاء والشقيقات، فعلى مستوى ما دون الوعي هذا، كنت أشعر بانكماش متبادل منّي تجاههنّ ومنهنّ تجاهي، ولا تزال تلك الهوّة الجسدانيّة قائمة بيننا إلى الآن، ولعلّها اتّسعت عبر السنين بسبب أمّي

وعلّل سعيد كلّ ذلك بالصورة الآتية: كنت دومًا أشتبه في أنّها كانت تلعب على الغرائز والنوازع وتستخدمها لبذر الشقاق بيننا، بتشديدها على الفوارق وتضخيمها نواقص واحدنا للآخر على نحو دراميّ، بحيث تشعرنا أنّها وحدها مرجع كلّ منّا وصديقه الصدوق وحبّه الأغلى· والمفارقة في الأمر أنّي ما أزال أصدّق أنّها كانت ذلك كلّه· وكان على كلّ شيء بيني وبين شقيقاتي أن يمرّ عبرها، وكلّ ما أقوله لهنّ يجب أن ينبع من أفكارها هي ومشاعرها هي ومعاييرها هي لما هو الصواب والخطأ

ثمّ توسّع في فضح كنه تلك العلاقة غير السويّة بين الأمّ والأطفال: خلافًا لأبي، الذي كان رسوخه العامّ وإعلاناته الأنيقة كمًّا مستقرًّا ومعروفًا سلفًا، جسّدتْ أمّي الحيويّة في كلّ شيء، في أرجاء البيت كافة وفي حيواتنا ذاتها، تتدخّل فيها بلا كلل، مطلقة الأحكام، جارفة إيّانا جميعًا إلى مدارها المتوسّع باستمرار· ولكنّها حرمتنا بذلك من تكوين حيّز مشترك فيما بيننا، مستبدلة إيّاه بعلاقات ثنائيّة معها، كمثل علاقة المستعمرات بالحاضرة الاستعماريّة، وشكّلتنا كمجرّة تنفرد بالإحاطة بكامل أجرامها ومداراتها(31)·

التفضيل على أساس الطاعة، ثمّ النبذ على قاعدة عدم الرضا، وخلق بؤرة استقطاب أموميّة ينجذب إليها الأطفال، بمقدار ولائهم للأمّ، وليس استنادًا إلى مراعاتها لاستقلاليّتهم النسبيّة الكامنة في ذواتهم الصغيرة، جعل سعيد يضع أمّه في مرتبة الإمبراطوريّة المستعمِرة، وجعل نفسه وشقيقاته في مرتبة المستعمرات التابعة التي لا حول لها ولا قوّة، وقد عجزوا عن فهم هذه العلاقة المداريّة حول قطب لا يتيح لهم انجذابًا كاملاً إليه إلى درجة التماهي، ولا يُمكِّنهم من التحرّر عنه، وتكوين هُويّاتهم الخاصّة، فهم منخرطون في مدار مغلق حول مركز يتلاعب بهم بمزيج من التقريب والإبعاد· وهو أمر بقي عصيًّا على فهم سعيد إلى النهاية·

ولطالما ظلّ يحوم حول علاقته بأمّه في تضاعيف سيرته دون أن يحسم طبيعة تلك العلاقة بصورة نهائيّة، فيما كان قد أصدر حكمًا حول طبيعة العلاقة مع الأب· فبدا وكأنّ الأب صاغ جسده، وعالمه الخارجيّ، فيما صاغت الأمّ نفسه، وعالمه الداخليّ، وفي نهاية المطاف لم تستقم علاقة سعيد، لا مع جسده ولا مع نفسه· وكان بَرِمًا بجسده ذي الحاجات الغامضة التي لم يزوّد بأيّة معلومات عن وظائفها، ففي ظلّ رقابة الأب كان جسده ينمو بعيدًا عن الشروط المعياريّة التي افترضتها الأبوّة، فظهر وكأنّ جسده مدوّنة عار ينبغي أن يخفيها عن الآخرين، ويمحو عنها كلّ العيوب، ولازمه أيضًا سأم وضجر من أحاسيسه ومشاعره، فبدت بطانته الروحيّة شاحبة، وشبه جرداء من التجارب، وفيها من التشويه والعجز ما يحول دون أن يعدّ نفسه سويًّا؛ إذ وسمته الأمومة الغامضة بسلوك ملتوٍ لم يفصح عن مقاصده·

الصفحات