أنت هنا

قراءة كتاب الولد المقاتل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الولد المقاتل

الولد المقاتل

كتاب " الولد المقاتل " ، تأليف مزين عسيران ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

إنّه لمن المستحيل أن نبقى لا مبالين حيال مثل تلك الحوادث الخطيرة التي تزعزع العالم. والأهميّة التي أوليها للأولاد المقاتلين تعود إلى مرحلة عشتها، وإلى مساري الفكري والعاطفي أيضاً. لقد اختبرت بنفسي تجربة الحرب الأهلية اللبنانيّة منذ عشرين عاماً. وخلال تلك الحرب، كان المراهق منذ البداية «مستخدماً كآلة قتل» يدربه الكبار على إحداث الرعب. بدايات هذا المشهد كانت في السابع من كانون أول/ديسمبر عام 1975. هذا التاريخ المُقدّر وَسَمَ الكبار (الآباء، قادة الميليشيات، والسياسيين) في فعلة «القتل البنوي» القاسية المركبة بحق هؤلاء الأولاد. ويدفع تكرار ارتكاب تلك الفظائع القصوى إلى البحث عن العناصر التي تُسهم في فهم آليّات الحرب والعنف والهدم بغية وضع حدٍّ لها. وفيما يتعدى البيّنة الآيلة إلى إيقاظ الوعي، يكمن هدفي في إطار التحليل النفسي، أن أفتح الطريق أمام الأعمال الجديدة التي تتناول الصدمات النفسيّة الخطيرة بقصد إعداد ما من شأنه تقديم الدعم على المستويين الوقائيّ والعلاجيّ.

فكلّ حرب تطول تقلب المعايير وتحدث ارتدادات. فهي لا تفتك بالبنى الاقتصاديّة وحسب، لكن بالبنى الاجتماعيّة أيضاً وبركائزها، حيث يصبح تكوين البنى الاجتماعية مجدّداً أمراً في غاية الصعوبة.

في لبنان ومنذ نهاية الحرب، تركز الحكومة الجهد لإعادة بناء البلاد مع إعطاء الأولوية للحجر، وإهمال البشر، كأنّ الحرب لم تمس الفرد سواء أكان مدنيّاً أو مقاتلاً أو راشداً أو ولداً أو مراهقاً... في لبنان، لم تدمّر الحرب رسميّاً إلّا البنية التحتيّة والاقتصاديةّ و«الحجر»؛ واللبنانيّون خرجوا سالمين! مع العلم أن هذه العجالة لمحو كلّ أثر للحرب هي حقيقة محاولة لنفي كلّ ما حصل: ما نقصده هنا هو قانون العفو «العام». لكن لماذا هذا السعي الحثيث نحو النّسيان ولمحو آثار كلّ ما حدث؟ وهل الناس مرعوبون من الوحشيّة التي ارتكبوها أو شاهدوها؟ باختصار يتعلّق الأمر هنا بصدمة جماعيّة: الجماعة مُسَّت في اعتقاداتها وبأخلاقها من جرّاء انتهاك مقدّساتها ومحرّماتها. لكن بالنسبة إلى الفرد، الصدمة لها معنى خاص متّصل بالفرد ومعاناته الخاصّة. ومن حق المرء التخوّف من النتائج المشؤومة، بالنسبة إلى المجتمع كما بالنسبة إلى الفرد، التي يمكن أن ينتجها مثل هكذا رفض لتحمّل مسؤولية التاريخ بصورة لا محالة، إذ إنّه يوصد الباب بوجه الحداد والعمل على الذاكرة الذي لا غنى عنه في إعادة البناء النفسي لكلّ اللاعبين في الحرب، وفي مقدمهم الأولاد المقاتلون.

لكن ماذا حل بهؤلاء المتقاتلين بعد عشر سنوات؟ ولماذا لم نعد نراهم في بيروت؟ لماذا يتوارون عن الأنظار، في حين أصبح رؤساؤهم قادة البلاد الجدد؟ ولماذا نجدهم بهذه الأعداد الكبيرة في مراكز المعالجة من الإدمان؟ ولماذا بقي آخرون أسرى نزوة الهدم داخل لعبتهم المرعبة «الروليت الروسي»؟ كيف يمكن لأيّ عملٍ تحليلي أن يقوم مع نتائجه العلاجيّة المفترضة في ظلّ هذه الوضعيات المولدة للصدمات (2)؟

لقد حدث شيء ما خطير جدّاً لهؤلاء الأولاد المقاتلين خلال الحرب. لقد أردت أن أفهم وأن أُحلّل أثر هذا العنف على نفسيّتهم، هذا العنف الممارس عليهم والممارسة من قبلهم في آن. وعليه فقد تبدّى لي بوضوح، لدى المقاتلين القدامى الذين التقيتهم، أنّ حادث الصدمة هذا لم يُكبت ولم يُنسَ. لقد مَكَثَ في الذاكرة. فالكبت بما هو آليّة دفاع، قد أَخفق. وهذه الذكرى المستحوذة تجتاح منذ ذلك الوقت كلّ حياتهم النفسيّة؛ إذ إنّ جزءاً كبيراً من الطاقة النفسيّة حوّل اتجاهه عن العلاقات مع الغير وانطوى ثانية في حقل العلاقات بين الفرد وصدمته النفسيّة. لقد استعاد الخطاب وانشغالات الشخص بلا توقّف تاريخ الصدمة دون أن يتوافر الوقت ولا المكان للتدامج الاجتماعي وللمشاعر.

ينبغي هنا أن أشير إلى أنني في البداية وحينما باشرت هذا العمل، الذي كان بحثاً في العيادة النفسيّة التحليلية، تخوّفت من لقاء هؤلاء الأولاد المقاتلين القدامى الذين كانوا مصدر خوف بالنسبة إليّ خلال الحرب. وعندما مثلَ سمير أمامي قائلاً: «لقد نفّذت مذبحة السبت الأسود»، لم أستطع أن أمنع نفسي من استعادة صورة المذبحة تلقائيّاً وأن أسأل نفسي أيضاً وأنا أنظر إليه: «هل هو الذي رمى القنبلة التي جرحت ابني؟».

إلا أنني كنت سريعة الدهشة بالمسافة التي توصّلت إلى اتخاذها حيال الوضعيات التي عشتها، وانفصلت بسرعة كبيرة عن هذا الماضي الثـقيل لأكون واقعية أكثر وأصيلة أكثر، وبالمحصّلة سأحاول، قدر المستطاع، توظيف حضوري في هذا العمل على أفضل وجه. فهل يعود ذلك ببساطة إلى أنّني قاربت الحقيقة «حقيقتي» عن طريق تجربة التحليل النفسي؟ بالمعنى الذي يقول، تبعاً لفرويد، «إنّ علاقة التحليل النفسي قائمة على حبّ الحقيقة، أي الإقرار والاعتراف بالواقع». ويمكنني القول في جميع الأحوال إنني أستطيع هنا أن أتصالح مع تجربة ثقيلة رزحت على حياتي زماناً طويلاً.

بهذه الكلمات التي أخطّ، أشهد على موت شخصية وولادتها، مُزَوّدة من الآن فصاعداً بحرِّيّتها وحقيقتها بعينها. وهناك بين الشخصيّة التي كنت والشخصية التي أصبحت مسافة متعذّر تقديرها، مع أن امرأة الحرب الشابّة وأنا لا تشكّلان إلا امرأة واحدة: نحن متشابهان ومتحابان متعايشان معاً.

إنّ شعور الحزن الذي اجتاحني وأنا أعيد قراءة نفسي يبيِّن بشكل جيِّد بسط هذه السيرورة التي انطلقت منذ اكتمال هذا المشروع. ولقد ساعدتني الكتابة في العثور ثانية على السلام في داخلي ومع الآخرين ومع بلدي.

إنّي أنحني أمام 144240 قتـيلاً (3)، ضحايا الحرب الأهلية، وأعود نحو أولئك الذين «استخدِموا كآلة قتل»، الأولاد المقاتلين. فإذا كان بعض الراشدين قد سحقوا حياة هؤلاء الأولاد من خلال تدريبهم على الإرهاب، فأنا مقتنعة أن هناك آخرين سيساعدونهم على الخروج من هذا الجحيم. ثقتي كبيرة بقانون الآباء، المنظّم للعلاقة الاجتماعيّة حيث في مقدوره إيقاف هذه الجريمة التي لا اسم لها.

هذا البحث يطرح قراءة وإضاءة تحليليّة نفسيّة لآثار استخدام الأولاد المقاتلين كأدوات وتحويلهم إلى آلات للقتل حيث يسعى الفصل الأوّل إلى إعطاء صورة جليّة عما اتّفق على تسميته بالولد المقاتل، أو الصورة التي تعكس خصائص عصرنا كما كان حال الولد البروليتاري في القرن التاسع عشر. عند هذا المستوى، لا يمكنني أن أغفل الإشارة إلى المُفارقة المدهشة للثقافة الأمريكيّة والعالم الانغلوساكسوني. حتى أن المرء يتساءل ما إذا كان المقاتلون الأولاد في عصرنا، لا يتلقّون تدريباً عن طريق الفظائع. في الفصل الثاني، فإن تساؤلاتي حول المستقبل الذاتي لهؤلاء الأولاد والمراهقين الذين واجهوا الصدمات النفسيّة الملازمة للهمجيّة في لحظة من حياتهم، وحيث تتوسّل الصدمة الجنسية الناجمة عن مرحلة انتقال المراهق جهازهم النفسي، دفعتني تلك التساؤلات إلى وضع معالم هذه اللحظة الأساسية للنضج النفساني ألا وهي سيرورة المراهقة.

في الفصل الثالث، سأطرح مرض العُصاب النفسي الناتج عن الرّعب وأتتبّع تطوّر الفكر منذ هيرودوت، مُركّزة على الأبحاث التي أجريت في نهاية القرن الثامن عشر، والتي بشرت بالعُصاب النفسي مع هيرمان أوبنهايم. وأخذاً بعين الاعتبار سياق كتابي لن يكون بوسعي أن أهمل المشاكل النفسيّة الحادّة، الأكثر قدماً من وجهة النظر التاريخية، والتي تميّزت دراستها بهاجس الإبقاء على الأعداد العسكرية. فابتداءً من الحرب العالمية الثانية توزع موضوع الصدمة النفسيّة أكثر فأكثر وتسترّ وراء مفاهيم أكثر غموضاً من قبيل الصدمة الانفعالية والإنهاك والانعصاب حيث إنّ الضغط العصبي سيشغل رويداً رويداً مكاناً متقدّماً في الطبّ وفي علم النفس المرضي. يبقى أنّ هذا المفهوم والأصل البيولوجي قد تعرض كثيراً للانتقاد من قبل المحللين النفسيين الذين رفضوا أن يختزلوا الصدمة النفسيّة في صورة نموذج نفسي ـ بيولوجي.

وسنرى مع ولادة التحليل النفسي واكتشاف علاقة الذات بالخطاب، ظهور مصير تمثيل الصدمة لمفهوم الكبت. إنّه المفهوم الفرويدي للـ «صدمات الجنسيّة». إنَّ معاينة الأولاد المقاتلين العيادية، تُظهر أنّ الأمر لا يتعلّق فقط «بصدمات جنسيّة» لكن أيضاً «بصدمة الإبادة»: يتأتى هذا المفهوم عن تنظيم أكثر قدماً يهدد نزوات حفظ الذات والنرجسية. هنا لا وجود للنسيان (الكبت) بل لجمود في الآليات النفسية حيث أن الخطاب لم يعد قادراً أن يعني شيئاً على الإطلاق.

في الفصول الأربعة اللاحقة، سأعرض لحالات فرديّة وأشرح تصرّف الأولاد المقاتلين خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ونتائج هذا العنف المرتكب والممارس على سيرورة تطوّرهم النفسي وعلى عملية الانخراط - الاندماج في الحياة الطبيعيّة بعد الحرب. وسأختم هذا الجزء العيادي ـ متأثرة بما رأيت ـ وأنا أسأل نفسي عن معنى هذه الحرب ( حرب الآباء) حيث يُقتل الأولاد.

سأتطرق ختاماً وفي فصل أخير، إلى المنظور العلاجي، وسأوضّح أهمية وصعوبة التطرّق العلاجي للصدمات النفسية الخطيرة.

غير أن الهدف يتخطّى مسألة الاعتناء انطلاقاً من هاجس طبي وإنساني بهؤلاء الضحايا الذين حوّلوا إلى جلّادين ليتركوا فيما بعد إلى مصيرهم الخاوي بعينه. إنَّ الهدف هو أكثر من سياسي، فهو يتعلّق كذلك في قطع دابر آلية العنف، وتفادي أن يتوالد العدم من العدم إلى ما لانهاية.

الصفحات