أنت هنا

قراءة كتاب البنية السردية في شعر امرئ القيس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البنية السردية في شعر امرئ القيس

البنية السردية في شعر امرئ القيس

كتاب " البنية السردية في شعر امرئ القيس "، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار غيداء
الصفحة رقم: 9

(3)

وقد تبدو دراسة السرد في الشعر على أنها تجاوزٌ للأنواع الأدبية، فالسرد نثرٌ، وهو خلاف الشعر الذي ينماز بالوزن والإيقاع واللغة المكثَّـفة.

ولعل هذا القول لا ينهض، لأن تعدُّدَ الأنواع الأدبية لا يعني بالضرورة وجود حدودٍ صارمةٍ تفضي إلى عدم التداخل بين الأعمال المنجزة، فالقصة قد تكتب بلغةٍ شعرية، كما أن الشعر قد يتضمن السرد. يقول ابن طباطبا العلوي: " وليست تخلو الأشعار مِنْ أنْ يُقتص فيها أشياء، هي قائمة في النفوس والعقول، فيُحسِن الشاعر العبارة عنها، وإظهار ما يكْمُن في الضَّمائر منها، فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعُه، وقَبِلَه فهمُه، فيُثَارُ بذلك ما كان دفينا، ويبرز على ما كان مكنونا ".([26]) ويقول لدى ذكره لقصيدة الأعشى (كن كالسمَوْأل): " فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتمام معانيه، وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أُريدَت له ".([27])

ومن المنظور العام هناك مَنْ يضع مسألة تصنيف اللغة موضع شك! فباختين يرى أن اللغة واقعة بين ضغطين يدفعانها في اتجاهَيْن متقابلَيْن: اتجاه نابذ للمركز ومبتعد عنه، وآخر دافع نحو المركز. فبحكم عمل الأول تنزع اللغة إلى التبعثر والتشتت والتناثر، فيما تتجه بموجب عمل الثاني إلى الاجتماع والتضامِّ والاستقرار، فتنشأ لغة الحياة، ولغة المؤسسات، كالمؤسسة الدينية والعلمية وغيرها. فاللغات لا تنتهي مطلقاً إلى الاستقرار والثبات المرجُوَّيْن، والمُهيِّـئَيْن لإجراء التصنيف وفق أسس موضوعية، بل تظل أبداً متعددة، عصيَّةَ الانضباط، متأبَّية على كل محاولة لمحاصرتها، أو تعيين حدودها. وإذا كان السعي إلى تصنيف النصوص في الساحة اللغوية العامة على هذا الحظ من الالتباس؛ فالأمر سيزداد صعوبةً وتعقيداً عندما نحاول تصنيف الأدب! لكثافة نسيجه، وتراكب مستوياته.([28])

وحين نُسْقِط مقولة باختين على قضية النوع الأدبي؛ نجد أن التداخل الحاصل بين الأنواع الأدبية على مستوى الأعمال المنجزة يمكن رده إلى طبيعة نظام اللغة , ففي حين يتجسد النوع الأدبي بفعل نزوع اللغة إلى التضامّ والاستقرار؛ فإن هذا التجسُّد سرعان ما يتعرض للانتهاك، فتنزع اللغة إلى التشتت والتبعثر وتتداخل الأنواع. وهكذا تفرض اللغة واقع الهدم والبناء للنوع الأدبي في الوقت نفسه.

وعند التأمل التفصيلي يتضح أن مقولة باختين تضئ كثيراً من القضايا التي قد تُثير بعض اللبس؛ فالخلط بين مفهومَي النثر والسرد الذي يشكِّل مدعاة للقول بالفصل ما بين السرد والشعر؛ يتم حين تُسقَط معايير النثر على السرد الذي هو فن، فالسرد ينتمي إلى النثر من حيث خلوه من الوزن، في حين ينماز الشعر بالوزن والإيقاع. لكنَّ الفرق بين السرد والنثر هو أن الأول لا يتأسس إلا بوصفه فناً، في حين يمكن للآخر أن يتشكل في خطابات غير أدبية. فلغة الخطاب اليومي لغة منثورة، فهي جزء من النثر. وبهذا فإن تسريد النثر أو تسريد الشعر، أو شعرية السرد ما هو إلا استجابة لطبيعة اللغة التي تنزع نحو التداخلات وتستجيب للعبور في مستويات مختلفة.

ولعل الوظيفة الأدبية للغة في خطاطة جاكبسون الشهيرة التي تنشأ من ارتداد الرسالة إلى نفسها وليس إلى المرسَل إليه؛ تبدو إثباتاً لهذه الرؤية، لأن اتجاه الرسالة إلى الرسالة نفسها هو في حقيقة الأمر اتجاه إلى اللغة، وبذلك تُكسِبُ اللغـةُ الرسـالةَ - التي هي قول ملفوظ أو مكتوب - نزوعاً نحو التشظي والتبعثر الذي هو من طبيعة اللغة، فتتشكل الرسالة في تجليها الأدبي وقد اكتسبت من اللغة القدرة على الخوض في عددٍ من المستويات في اتجاهات رأسية في ضمن محور الاختيار على أساس الاختلاف أو التشابه – بحسب سوسير – أو أفقية في ضمن محور التأليف على أساس التجاور والتماس. ويبقى تأطير الرسالة في نوع أدبيٍّ بعد أن اكتسبت صفة الأدبية أمراً يخضع للرسالة نفسها، فقد أصبحت قابلةً للتجلي في أي نوعٍ من أنواع الأدب.

وإذا كان الخطاب الشعري يعتمد - كما يرى جاكبسون - مبدأ المشابهة، والنثري يعتمد مبدأ المجاورة ([29]) في إطار علاقة متعارضة قائمة على محورين الأول عمودي والثاني أفقي؛ فإن هذا التعارض يتضاءل بل يتحول إلى تنوع وتناغم حين تكتسب الرسالةُ صفةَ الأدبية. فالرسالة التي كانت قولاً - ملفوظاً أو مكتوباً - وأصبحت لغةً؛ قد اكتسبت القدرة على التجلي في أنواعٍ عدَّة، فيتجسد السرديُّ في الشعريّ، بل ويكتسب السرديُّ خصائص – يمتحها من اللغـة في الأسـاس - تتكيف مع طبيعة الشعريّ، فيبدو الزمن السردي في الشعر – على سبيل المثال - في إطار كتلٍ مجزأةٍ، تفصل بينها فجوات وصفية أو زمنية محذوفة، فتتشكل الوظيفة الشعرية في النص دون أن تُلغي الوظيفة السردية، لكنها قد تهيمن عليها. وتبدو الأحداث بصورة موجزة، فتطغى سمات: " السرعة الخاطفة، واللحظة المكثفة، والتقطع في السرد، والانتقال المفاجئ ".([30]) وعلى هذا النحو تؤدي الرموز الشعرية في القصيدة وظيفتين: إحداهما سرديَّة، تسهم في بناء القص، وتأسيس العالم الحكائي. وأخرى شعرية، بصفتها دالاً مقصوداً بذاته.([31])

أمَّا ما يتعلق بهوية النص الأدبي في ظل هذا التداخل؛ فإن الشكلانيين الروس قد قدموا تصوراً واضحاً عنه من خلال مفهوم الهيمنة. فالعامل المُهيمِن في الأثر الأدبي - بحسب تينيانوف - يُحدث تغييراً في العوامل الأخرى التي تغدو تابعة له ([32]). ولعل الأمر ليس بالصرامة التي تحدث عنها تينيانوف، وبخاصة في مفهوم التبعيَّة الذي يتنافى مع الاندماج والتناغم الذي يمكن الإحساس به في النصوص التي يتمازج فيها أكثر من نوع. فتأثير العامل الغالب على النص؛ يَحدث من خلال استجابة بقية العوامل المشكِّلة له، فتتجسد الهوية الغالبة على النص، وهي بالتأكيد لن تتجاوز هوية العامل المُهيمِن، فيكون هذا العامل شعرياً حين تطغى الكثافة الدلالية، والصور المجازية على النص، ويكون سردياً حين يغلب النمط الحكائي. وهذا ما سيتم تبيينه من خلال إحصاء صِيَغ الحكائي والتقريري في نصوص الدراسة.

الصفحات