أنت هنا

قراءة كتاب المسرح والقضايا المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المسرح والقضايا المعاصرة

المسرح والقضايا المعاصرة

كتاب " المسرح والقضايا المعاصرة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

ويتفـق المسرح الرمزي ومسرح اللامعقول فـي كثير مـن الخصائص الفنية أهمها: رفضهما للمعنى المحدد والمعنى المنطقي، بل يتجهان إلى المعنى الرحب الذي يقوم على الصورة والفكر معًا، لا كما يمكن للعقل إدراكهما بل كما هما فـي الوجدان، لذلك يفتقد الشكل الفني لدى الرمزيين والعبثيين المنطقية والمعقولية، وأن كان ذلك أوضح لدى العبثيين الذين تختفي عندهم سمات المسرح التقليدي كالتسلسل المنطقي للأحداث، أو مطابقة الواقع أو مشابهته أو الاقتناع الفكري، بل عن طريق الهزة الدرامية والانفجارات الشاعرية، فهم يقدمون صورة تعرض مليئة بالمتناقضات، تضحك وتبكي، وهي كالأحلام صورة رمزية لها أكثر من معنى يوحى به ولا يفصح عنه، معنى يحس ولا يستخلص تماما مثل الحلم(13).

ويعد (موريس ميترلنك)(14) من أبرز كتاب المسرح الرمزي، حيث كتب عددا من المسرحيات الرمزية الجادة المتقدمة في بنائها المسرحي وفي لغة الحوار والجو الإيحائي، وقد لخص آراءه الدرامية في كتابه (كنز البسطاء)، حيث وصفت بأنها ثورة على المذهب الطبيعي الذي أرسى قواعده كل من (إميل زولا) و(هنري بيك).

إن (ميترلنك) كشاعر قد أحدث تأثيرا بالغا على الشعر الفرنسي لغرابة الصور التي وردت في قصائده، وللبساطة والتلقائية المؤثرة التي غلفت أعماله، والتي جعلته يدخل الي عالم المجهول، ولكن يبقى الجانب الفلسفي أجمل ما في أعماله إذ يتسم بالفضول والبحث الدؤوب عن الحقيقة في مختلف أشكال الرموز ، تلك الحقيقة المرتبطة بمأساوية الوضع الإنساني(15).

إن المجهول واللاوعي والعقل الباطن تشكل في رأى (ميترلنك) أسرارا خفية في حياة الإنسان يتطلب إدراكها الوصول إلى أفضل صيغ التأمل وذلك استعدادا للغوص في ميادين المجهول التي لا يمكن إدراكها بالعقل وحده. لقد أكد دوما (أن العواطف لا يمكن أن تخضع للتجارب العلمية وأن الحياة لا تقتصر على ما تراه عدسة العلم، وإنما هي سر لا يمكن أن يفهم معناه بكل جلاء ووضوح، وأن عالم المرئيات والواقع المحسوس ليس إلا أشباحا و أوهاما تتراقص على صفحة الحقيقة / وما الحقيقة إلا لحظات الصمت والتأمل والاستغراق، تلك اللحظات التي ينسى فيها المرء كيانه الفيزيقي، ويصغي إلى قوانين الأبدية الغامضة التي تسّير الكون)(16).

فكل ما ندركه عن حقيقة الكون يبقى في إطاره الضيق، ويبقى الظلام والمجهول يكتنف الإنسان من كل جانب في ظل قوى غيبية عظيمة لا مرئية تفرض تأثيرها على حركة الوجود.

ويتفـق (ميترلنـك) مع الطبيعيين فـي أن مأساة الحياة اليومية أصدق وأكثر تماشيا مـع حقيقة الوجود مـن مأساة المغامرات والبطولة، فالموضوعات التراجيدية ليسـت ضرورية لإبراز تسلـط المجهول، وأكثر الأحداث اليومية يمكـن إضاءتها بشعاع مأساوي، ولكن (ميترلنك) مـع ذلك يختلف عـن الطبيعيين فـي أن المأساة عادة تكـون بالداخل وتكاد تخلو مـن الحركة الخارجية حيث يسميها (دراما ساكنة)، وهـو يعتقد أن الشيء المأساوي أو الدرامي حقـا فـي المسرح ، هـو ليـس فقط قوة الحكاية ولا الكلمات والمشاجرات وحوادث القتل المثيرة وإنما هناك القوى غير المرئية التي يقدمها المسرح ، ففي العالم اللاشعوري للإنسان تحدث الدراما الفعلية وتكمن المأساة اليومية الحقيقية ، التي لا يعبر عنها إلا (المسرح الساكن) الذي لديه القدرة على أن يكشف للمتلقي عن الملامح الخفية في الكون(17) بأسلوب مسرحي يعتمد لغة شعرية ، حيث يعمل الشاعر المسرحي على محاولة الكشف عن خفايا المجهول وأسراره ووضعه على بساط الحياة اليومية.

لقد رفض (ميترلنك) الحركة المادية في المسرح والصراع الخارجي، وأراد من المسرح أن يكون عبارة عن لحظة صمت وتأمل وسكون يحدث فيها نوع من الكشف أشبه ما يكون بالكشف الصوفي، وهذا أمر كائن فعلا في نظر (ميترلنك) الذي يستشهد بالمآسي العظيمة القديمة كمآسي (اسخيلوس) و(سوفوكلس) حيث أن الحركة تكاد تنعدم فيها، ففي كل من (برومثيوس) و(الضارعات) لا توجد حوادث، وكذلك (ربات الرحمة) و(انتيجون) و(اليكترا)، ويرى أن (أوديب) رغم أنها مليئة بمشاهدة التعرف فإن ما تحويه من موضوع أقل من أبسط مأساة في هذا العصر(18)، فجمال وعظمة المآسي الجميلة برأي (ميترلنك) لا يرجع إلـى الأفعال بل إلـى الكلمات، وهـو لا يعني قطعـا تلـك التـي تصاحـب الحدث وتفسره، إنما تلك المكونة للحوار الداخلـي الذي تسمعـه الروح بعمق لأنه يتضمن كلمات تتفق والحقيقة العميقة ، لذلك اهتم (ميترلنك) في أعماله المسرحية بالتغلغل في أعماق النفس الإنسانية والتعبير عن أحاسيسه الغامضة اللاواعية، مع افتقار هذه الأعمال للصراع الخارجي والحركة الظاهرية.

وقد لجأ (ميترلنك) إلى الرمز سواء في الموضوع ككل، أو في اللفظ فقط، وذلك بهدف إدراك جوهر العالم من خلال نسبية الوجود، ومحاولة تخطي الحقيقة الواحدة بغية الوصول إلى الحقيقة الأسمى، والتي يحاول الأديب أن يدركها عن طريق الحدس، وأن يعبر عنها عن طريق الإيحاء، وعليه حتى يدرك هذه الحقيقة أن يستكشف العلامات المحيطة به التي تشكل العلاقات بين الإنسان العالم(19).

وقد تجلى أثر الرمزية في مسرح (ميترلنك) الذي تحرر من تقليد الطبيعة تقليدا حرفيا، وأصبح يعتمد الفكر والخيال والتأمل فيما وراء الطبيعة وإضفاء روح الشاعرية والتركيز على الإيحاء، وذلك ببناء عدد كبير من المشاهد دون مراعاة للبناء التقليدي.

ففي مسرحية العميان 1890م، يتناول (ميترلنك) قصة مجموعة من العميان الذين يضلون طريقهم في الغابة بعد وفاة القس الذي كان يشكل دليلا لهم، ونتيجة لذلك ينتهون نهاية مأساوية، فالفكرة الفلسفية التي تقوم عليها هذه المسرحية تكمن في أنه في ظل غياب الكنيسة يكون مصير الإنسان هو الضياع والهلاك، وما حالة العمى التي تعيشها الشخصيات هنا إلا دلالة على عجز الإنسان وعدم قدرته على معرفة مصيره وإدراك خفايا ما يحيط به في هذا العالم.

استوحى (ميترلنك) موضوعة مسرحية (العميان) من لوحة للفنان البلجيكي (بيتر بروجيل الأب) والتي رسمها في القرن السادس عشر، وهي تصور ستة عميان يسيرون متعثرين باتجاه الهاوية وقد وضع كل منهم يده على كتف صاحبه، والكل منهم يسير في موكب يقوده أعمى، بينما يلف السكون تلك القرية القابعة من ورائهم ببيوتها البسيطة، وتعد مسرحية (العميان) إحدى المسرحيات المبكرة التي كتبها (ميترلنك) حيث سعى من خلالها إلى تصوير الإنسان درامياً في حالة من العجز التي تظهره ضعيفاً في مواجهته المحتومة للقدر (ومثلما عرضت المأساة الإغريقية البطل في صراعه التراجيدي مع القدر، وأسست الدراما الكلاسيكية موضوعاتها على الصراعات الناجمة عن العلاقات الإنسانية ، فإن ميترلنك قد التقط اللحظة التي يتصدى القدر فيها للإنسان الأعزل (...)، إن الموت عنده هو من يشكل مصائر الناس، وأنه هو وحده المهيمن على الخشبة في مسرحياته وهو لا يصوره عبر شخصيات خاصة ولا في أي نوع من الربط المأساوي للحياة، فلا يؤدي إليه حدث ما وليس بأحد عنه مسؤولاً. وهذا يعني من زاوية النظر الدرامية استبدال مقولة الحدث بمقولة الحالة)(20).

لقد اهتم (ميترلنك) في مسرحياته بالانطلاقات الروحية للنفس نحو عالم غير محسوس، وبدت الحقائق المألوفة عن الزمان والمكان غير مؤثرة على تصرفات الشخصيات، فالأحداث لا تنمو في مسرحه نمواً منطقياً واقعياً وفق ما تقتضيه الحبكة المسرحية التقليدية، فبدلاً من ترابط الأحداث يستخدم مواقف لها دلالاتها الفكرية والجمالية مع اعتماده الكلي على الحدس، وعلى الأسلوب الشعري وما يتضمنه من الصور والأخيلة والإيقاع الموسيقي.

إن (ميترلنك) أراد من خلال مسرحية (العميان) أن يخلق مأساة رمزية يعبر فيها عن سر الحياة والقلق النفسي الذي يعتري الإنسان، وذلك بتجريد إبطاله من الحياة المادية للانتقال بهم من عالمهم المحسوس إلى عالم غير مادي، فأتى بشخصيات هشة هوائية غامضة مبهمة تروح وتجيء فيما يشبه ضياء القمر، والكلمة هنا ليست سوى رمز للعالم الخارجي والعالم النفسي وهي توحي ولكنها لا تقول، واللغة هنا لا تنقل الفكرة فحسب، وهي ليست حلقة اتصال لنقل المعاني المحددة، إنما تملك قدرة إيحائية فائقة لخلق عالم من الظلال والألوان والأصوات التي تتجاوب مع عالم آخر فوق الواقع(21).

ويتجسد مفهوم التناتولوجيا في المسرحية من خلال الحالة التي تبدو عليها الشخصيات وكلها تتصف بصفات الشيخوخة والعمى والجنون، التي تشكل دلالة على عجز الإنسان وعدم قدرته على إدراك ما يحيط به في هذا العالم، وهذه الشخصيات يعبّر حوارها منذ البداية عن حالات القلق والخوف والترقب:

(الأكمه الأول: ألم يعد بعد؟

الأكمه الثاني: لقد أيقظني.

الأكمه الثالث: أنا أيضا كنت نائماً.

الأكمه الأول: ألم يعد بعد؟

الأكمه الثاني: لا أسمع شيئاً مقبلاً.

الأكمه الثالث: آن أوان عودتنا إلى الملجأ.

الأكمه الأول: ينبغي أن نعرف أين نحن؟.

الأكمه الثاني: الطقس بارد منذ ساعة انصرافه.

الأعمى الأكبر سناً: هل يعرف أحدا أين نحن؟

العمياء الأكبر سناً: لقد سرنا سيراً طويلاً. لا بد أن نكون بعيدين جداً عن الملجأ)(22).

الصفحات