أنت هنا

قراءة كتاب المسرح والقضايا المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المسرح والقضايا المعاصرة

المسرح والقضايا المعاصرة

كتاب " المسرح والقضايا المعاصرة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6

وفي عام 1892م كتب (ميترلنك) مسرحية (بلياس ومليزاند) وهي مسرحية رمزية سيطرت عليها الأجواء الحلمية الأسطورية، وقد كتبت نثراً بأسلوب شعري مما أضفى عليها قوة الإيحاء وشفافية الرموز.

تقع المسرحية في خمسة فصول، وتدور حول أمير اسمه (جولو) تكتب عليه الأقدار أن يتوه في الغابة أثناء الصيد، وبينما يتلمس طريقه في الغابة يلتقي بفتاة تبكي على حافة ينبوع كانت قد رمت تاجاً لها في الحوض واسمها (ميليزاند)، ويقنعها (جولو) بالذهاب معه ثم الزواج منه بعد أن فقد زوجته، لكن (ميليزاند) تلتقي في القصر بأخ (جولو) من أمه ( بلياس) الذي يهيم بها، وتنتاب الشكوك (جولو) حول العلاقة التي تربط بينهما لاسيما بعد ضياع خاتم الزواج فيقتل أخاه (بلياس) ويصيب (ميليزاند) بجرح صغير لا تلبث بعده إلا أن تموت .

ومما يؤشر على الشخصيات في المسرح الرمزي بشكل عام، وفي مسرح (ميترلنك) بشكل خاص، هو أنها تفتقد للأبعاد المتعارف عليها في المسرح الواقعي، ولا تؤثر الحقائق المألوفة عن الزمان والمكان في حركة الشخصيات وتصرفاتها التي نجهل خلفيتها وماضيها، فحينما نقرأ مسرحيات (ميترلنك) نكتشف أننا نجهل جهلاً واضحاً من هو هذا الغريب الموجود في مسرحية (الدخيل)، ومن هم هؤلاء كفيفو البصر الذين يتخبطون في الغابة كما في مسرحية (العميان)، ومن هن الأميرات والفرسان شاحبو الوجوه الذين يظهرون في مسرحية (بلياس وميليزاند) إننا (لا نعرف من أين أتوا وإلى أين يذهبون، إن وجودهم الفيزيقي غير محسوس. وليس معنى هذا انتفاء الصراع بل نقله بصورة غاية في الحدة والجدية وإلى مستوى الأفكار الروحية، وهو صراع يتتبع خلجات النفس ومحاولاتها لاستشفاف دورها في الوجود وتوحدها مع النفس العليا للكون)(23)، فهي شخصيات تشبه الدمى في حركتها أثناء الأحداث التي تبدو من خلالها مستسلمة للقدر، وفي مسرحية (بلياس وميليزاند) (تبدو السمة الغيبية هي المسيطرة على أحداث المسرحية في كل أجزائها إذ نحس منذ البداية أن هناك شيئاً يحدث، ولكن ذلك لا يأتي عن تسلسل الأحداث تسلسلاً منطقياً معقولاً، وإنما ينجم نتيجة لتضخيم الحدس، وذلك باستعمال المؤلف للمواقف الدالة، وللغة ذات إشعاع رمزي، فهو يخلق جواً إيحائيا نستشف من خلاله ما يمكن أن يحدث(24)، ويبقى الإحساس بالمجهول يكمن خلف أحداث المسرحية لتبدو الشخصيات بذلك محكومة لقوى اكبر منها، فالحب يدخل قلب كل من (بلياس) و (ميليزاند) رغم إرادة كل منهما، وإذا اجتمعا معاً تغلق الأبواب وترفض المصابيح أن تظل مضاءة في إشارة إلى سوداوية الأحداث القادمة.

إن ضياع خاتم الزواج من (ميليزاند) يحمل في حقيقته دلالة رمزية ترتبط بأحداث رهيبة سوف تقع، وتأكيدا على ذلك فإنه حينما وقع الخاتم من إصبعها كانت الساعة تدق حينئذ منتصف النهار، وهذه الحادثة تزامنت مع سقوط زوجها (جولو) من على جواده في الغابة، وإذا كان ضياع الخاتم يرمز إلى الزواج الذي سيضيع فيما بعد فإن مياه الكهف العميقة التي ابتلعت الخاتم قد رمزت إلى العاطفة الجامحة التي تجتاح (بلياس):

(بلياس: ما أروع بريق الخاتم في الشمس . لا تقذفي به إلى الماء.

ميليزاند: آه.

بلياس: قد وقع؟

ميليزاند: وقع في الماء.

بلياس: ينبغي أن لا يطغى عليك القلق هكذا من أجل خاتم، فليس هو بشئ وربما نجده، وإذا لم نجده فسنجد بدلاً منه خاتماً آخر.

ميليزاند: لا. لا لن نجده بعد ذلك، ولن نجد بدلاً منه خاتماً آخر كذلك. ومع ذلك كنت أعتقد أنه في يدي، وكنت قد أطبقت عليه يدي فإذا به يقع بالرغم مني ... كنت قد بالغت في قذفه نحو الشمس)(25).

إن آلية البناء الدرامي للمسرحية تقتضي من المؤلف استخدام عددٍ من المفردات استخداماً رمزياً، فالماء والظلام والبحر والغابات الشاسعة تلعب دوراً مهماً في النص، وذلك من خلال قوتها الإيحائية ودورها في ربط المواقف والأحداث المسرحية برباط خفي استجابة للبناء الرمزي للمسرحية، فالنور مثلاً يؤسس لحالة الإشراق العاطفي المؤقت عند كل من (بلياس) و(ميليزاند) ثم لا يلبث أن يتوارى ليحل محله الظلام الذي يرمز لتلك النهاية المأساوية التي تنتظر ذلك الحب، بينما ترمز السفينة التي تتلاعب بها الأمواج لتلك العاطفة التي تهيج في نفس كل من (بلياس) و(ميليزاند) دون معرفة نهايتها، وهذه المواقف التي تحفل بها مسرحيات (ميترلنك) لا ترتبط بحالة تطور الحدث بقدر ارتباطها بإثارة الحالات الشعورية الخاصة المعبرة عن الأجواء الرمزية ضمن إطارها الفلسفي العام.

ويعد (هنريك إبسن)(26) أحد الشعراء والكتاب الرمزيين وإن كان النقاد قد وصفوه بأنه إمام المدرسة الواقعية في المسرح الحديث، وقد جمع (إبسن) بين الفنان الملهم والكاتب الاجتماعي الناقد مما جعله في مكانة متقدمة بين أدباء عصره، بل أنه قد أثر على عددٍ من الكتاب البارزين من الأجيال اللاحقة أمثال: ها وبتمان، برناردشو، أونيل وغيرهم.

بدأ (إبسن) مسيرته الأدبية بعددٍ من الروايات الواقعية العاطفية ، ومع تطور هذه المسيرة بدأت توجهاته نحو الرمزية، وبعد أن أقلع عن المسرحية الشعرية اهتم (إبسن) بمعالجة الموضوعات الاجتماعية ليقدم للقارئ مسرحيات الأفكار التي تناقش المشاكل الاجتماعية الموضوعية وذلك في سبيل إعادة النظر في نظم المجتمع وأوضاعه.

لقد شرع (إبسن) أسلحته الانتقادية يمزق بها حجب الرياء عن وجه الفرد ووجه المجتمع ، ساخراً سخريته اللاذعة من معظم المثل التي كاد الناس يتخذونها آلهة لهم تحل من نفوسهم محل الآلهة القديمة عند الأمم الوثنية ، ساخراً أيضا من روح المساومة والوصولية وأنصاف الحلول التي يفضي بها المجتمع الحديث عن الجريمة والمجرمين، منبهاً الأفراد ، ولاسيما المستضعفين منهم إلى الاستمساك بحقوقهم الإنسانية كي لا يصبحوا فرائس للرأسماليين والأقوياء وذوي النفوذ من أي لون(27).

تأثر (إبسن) بتنظيرات ونتاجات (إلكسندر ديماس الإبن) (1824-1895م) حول الدراما الاجتماعية الواقعية ، إذ أن (ديماس) نادى بالمسرحية الواقعية ولكنه أخفق في إظهارها إلى حيز الوجود مثلما فعل (إبسن) ، الذي تأثر أيضا بتنظيرات يوجين سكرايب (1791-1861م) حول المسرحية المحكمة الصنع التي ازدهرت فيما بين عامي (1820- 1850م) والتي كان لها دورها في ترسيخ العناصر التي تكوّن القالب الدرامي.

إن (إبسن) قد جعل شخصياته المسرحية لا تختلف في ظاهرها عن شخصيات الحياة العادية، وجعل أحداث مسرحياته اكثر ترابطا وأكثر منطقية، لكنه لا يتوقف عند تسجيل مظاهر السلوك الإنساني مثلما نجد عند الواقعيين، وإنما ينفذ خلاله ليكشف عن الجوهر العام، فهو لا يعالج الواقع كمجرد تصوير أو تعبير خارجي، بل يتغلغل في أعماقه الفكرية، مما جعل النقاد يعدوّن مسرحياته أنها مهما بلغت واقعيتها فإن لها نصيب من الرمزية التي هي عند (إبسن) ليست مجردات ذهنية ، وإنما تكمن في الصور التي لها القدرة على إضاءة جوانب مختلفة من الحقائق الغامضة(28).

امتاز (ابسن) بارتقاء الغريزة الفنية في معظم مسرحياته، وهو يؤكد دوما ضرورة تخليص الإنسانية من أدرانها وإنارة الطريق أمامها وذلك حتى تبلغ الحياة الفضلى، وقد كتب أولى مسرحياته الناجحة عام 1856م وكانت تحت عنوان (مأدبة سولهوج) حيث جاءت بأسلوب الشعر الروائي الشعبي، وإذا كان (إبسن) قد اتجه نحو الرمزية منذ بداية مسيرته الأدبية، فإن مسرحياته الرومانسية والواقعية لا تخلو هي أيضا من العنصر الرمزي .

وتعد مسرحية (براند) 1866 م إحدى مسرحيات (إبسن) الرمزية، وهذه المسرحية ترجمة لحياة (إبسن) حيث عبر من خلالها عن أوضاعه الاجتماعية بكل أبعادها، ويقال أن (إبسن) قد كتبها متأثرا بفلسفة رائد الوجودية (سورين كيركجارد) لكن (إبسن) قد تنصل من ذلك بحجة أنه حينما كتب مسرحية (براند) لم يكن قد قرأ و فهم إلا القليل من مؤلفات كير كجارد (فقد كان الرأي الشائع أن إبسن قد وضع الكثير من آراءكيركجارد في مسرحية براند، وكان كيركجارد يطالب هو أيضا بأن يهب الإنسان ذاته كلها.. كما كان يعتقد أيضا أن قدرة الإرادة على الاختيار هي الشرط الضروري للخلاص. ولقد وضع أولا أمام جيله الحاجة إلى تسليم الذات تسليما مطلقا إلى إرادة الله، أي الخضوع القاطع الكامل غير المشروط للآخر، وهذا ما لا يمكن أن تفعله إلا إرادة مدربة قوية في حد ذاتها)(29).

إن هذه المسرحية هي أقرب ما تكون إلى الدراما الشعرية الرومانتيكية، وهي تدور حول شخصية القس (براند) الذي يبحث عن خلاصه الروحي الخاص، وذلك من خلال سلوكه الإنساني في الإيثار والتضحية من أجل الآخرين، مؤكدا أن المبدأ الذي يؤسس عليه طموحه ينطلق من الكل بوصفه (الإرادة التي لا تفزع من شيء ولا تنثني أمام شيء... الإرادة التي تستهزئ بالموت مهما كان مراً ومؤلما).

إن (براند) - الذي يعني اسمه النار والسيف - يتحدى المخاطر وذلك في سبيل القيام بالمهام الدينية العاجلة، ولا يتوانى عن تذكير الناس بوجود الله في عليائه وبضرورة التوجه إليه لأن اهتمامهم بالمادة جعلهم يتقلبون في وحل الخطيئة ولو تقربوا من الله لأنقذهم من محنهم وأعانهم ورد اليهم الأمل والقوة والروح، فشخصية (براند) هنا تعبر عن صورة الإنسان المثالي والفردي والثائر الأسمى، (وعلى غرار أنبياء التوراة والحواريين ذوي التطهر الديني الذين يظهرون في تاريخ البشرية ليغيروا سير العالم، نجد أن براند يتفانى في قضيته بدون هوادة. لقد اختار - كما فعل لوثر - أن يكون جلاد العصر يلهب بناره إسراف الأفراد والنظم، وقد صمم - كما فعل موسى - على أن يأتي بقوانين جديدة للنقاء الروحي في جيل من الخاملين والملاطفين والحالمين، وقد التزم - كما فعل المسيح - بخلاص الجنس البشري بأسره عن طريق تحول تام في شخصية الإنسان)(30)، فهذه المسرحية تناقش الموضوعات الكبرى التي شغلت (إبسن) والمرتبطة بوضع الإنسان في الكون الذي يشكل (إبسن) أحد أفراده، ووضع المجتمع الحديث وحالة البحث عن عالم مثالي تسوده الحرية والعدالة والمساواة.

وعلى الرغم من أن الكاتب المسرحي الثوري يبدي عطفه على أبطاله الثوريين، إلا أن إبسن - حتى في ملاحمه الخلاصية - يبدو متشككا وساخرا من أبطاله، ما لم يكن معاديا لهم تماما، ف (إبسن) ينبذ أحيانا أبطاله المثاليين الثوريين، إذ أن (براند) الذي يتشبه بالله بحيث يصبح ثائرا عليه يتلقى العقاب من السماء في شكل انهيار جليدي(31)، وهذا ما جعل بعض النقاد يذهبون في تأويل مغزى المسرحية إلى أن (ابسن) قد أراد السخرية من رجال الدين، سواء المتشددين منهم أو المتساهلين في أمور دينهم، أو من يتخذون من الدين ذريعة لدنياهم، ففي نهاية المسرحية يقف (براند) وحيدا أمام الله، وأثناء ذلك يدوّي في الآفاق صوت شديد ناتج عن انهيار كتلة جليدية من الأعالي فوقه، ويصيح (براند) متسائلا إلى الله في مرارة وشعور مضن من الشك عما إذا كان تأكيد الإنسان لإرادته التي لم تلن قناتها سوف يجلب له الخلاص والنجاة، وتأتيه الإجابة واضحة في الوقت الذي تجرفه فيه الكتلة الجليدية المنهارة (إن الله هو المحبة).

إن جميع مسرحيات (إبسن) هي نتاج للتأرجح بين اندماج المؤلف وابتعاده بين الذاتي والموضوعي، الأخلاقي والجمالي، الثائر والمرتدع، وهذا التأرجح يزود كل واحدة من مسرحياته بمستوى مزدوج تتعايش فيه مسرحية الأفكار مع مسرحية الفعل، لتظهر الشخصيات بذلك ذات حياة كريمة خصبة إلى جانب وجودها الدرامي، فمسرحية الأفكار هي تعبير عن تمرد (إبسن) الشخصي حيث يستمد منها طاقته وحماسه واندفاعه، بينما مسرحية الفعل تضع لذلك التمرد نوعاً من البعد الموضوعي ليستمد منها (إبسن) استقلاله وتعقده ودسامته(32).

أما مسرحية (البطة البرية) 1884م، فهي تمثل أنموذجا كاملاً لمسرحيات (إبسن) الواقعية الرمزية، وهذه المسرحية ارتكز (إبسن) في كتابتها على قصيدة شعرية عكس فيها تجربته الشخصية، وقد جاءت تحت عنوان(البطة البحرية)، تلك البطة التي تبني عشها عند الخليج، ويسطو صياد السمك على عشها مرة بعد أخرى، ويمكن أن توصف هذه القصائد بأنها (قصائد مذهلة في تركيزها ومرونتها، كل منها يصطبغ بطابع تجربة شخصية متغلغلة. فيها ينطلق لسان إبسن كما لم ينطلق في أي مكان آخر. على أن هذا الانطلاق، كما هو منتظر من كاتب درامي، يتخذ سبيل الصور الدرامية في كل قصيدة تتجسد العاطفة في رمز)(33)، والرمز هنا هو رمز درامي يتخذ صفة الحركة لا الجمود ضمن بنية القصيدة التي تعد قصة درامية كاملة.

الصفحات