أنت هنا

قراءة كتاب المسرح والقضايا المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المسرح والقضايا المعاصرة

المسرح والقضايا المعاصرة

كتاب " المسرح والقضايا المعاصرة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

لقد قدم (سترندبرج) في مسرحه صورا من حياته المشوشة، حيث استمد البناء الفكري والاجتماعي والنفسي لشخصياته من خلال وقائع معينة أثرت في حياته، حيث جاءت إبطال مسرحياته لتعبر عنه وهو في صراعه مع المجتمع بأعرافه وتقاليده، وقد تشابه (سترندبرج) مع (إبسن) في كثير من النواحي، (فكل منهما في جوهره يروي سيرته الذاتية وينفث الغضب عن صدره بصب صراعاته الروحية في المسرحيات، وكلاهما عرضة لثنائية قوية تقرر الاتجاه المتغير لموضوعات كل منهما وقوالبه، وكلاهما منجذب إلى الجوانب الأكثر بدائية في طبيعة الإنسان، ولكن كل منهما - فوق كل شيء - ثائر ورومانسي، فنه هو التعبير في غير هوادة عن ثورته)(16).

إن حالة العنف عند (سترندبرج) تتصاعد حتى يتوصل إلى قناعات بأن الله هو المسؤول عن كل ما يحيق به من دمار نفسي وعصبي بسبب ما فرض عليه من واقع اجتماعي مقيت، وإذا كان (بوشنر) قد رد سقطاته السياسية إلى القدرية التاريخية، فإن (سترندبرج) قد أرجعها إلى الله، ولكنه رفض الاستسلام لهذه الإرادة العليا وتحداها كونها قد سلبت منه الوعي والإدراك، وبات دائم البحث عن التوازن بين ذاته الممزقة والعالم السلبي الذي يفرض عليه البؤس والشقاء.

ويرى (سترندبرج) أن التعبير عن الحب من خلال الجنس شيء من القذارة، فهو يبحث عن النقاء الروحي فاضحا التوجهات الجنسية عند شخصياته، إذ يلجأ أحيانا (إلى التضحية بتماسك الشخصية وفعلها المنطقي في سبيل تركيزه على الحرب الجنسية)(17) مؤكداً بذلك على تقديم شخصيات ثائرة على النظم الاجتماعية والسياسية والدينية، حيث وظف واقعه الذاتي في التعبير عن أزمة الإنسان ومعاناته، (وأساس مأساة الإنسان في نظر سترندبرج أنه لا وجود لحل منطقي رشيد لها، فالإنسان ضحية رغبات متصارعة متناقضة وأقوى هذه الرغبات - مثل رغبة الرجل للمرأة أو المرأة للرجل - دائما رغبة غير معقولة بل وأقوى من العقل)(18).

لقد أبدع (سترندبرج) ما سمي بدراما المحطات، حيث ظهرت هذه التقنية واضحة في نصوصه التعبيرية، ففي ثلاثية الطريق إلى دمشق (1898-1901م) ظهر أسلوب (سترندبرج) واضحا حيث قدم لنا (المبادئ الأساسية الشكلية للدراما التعبيرية التي تشمل اختزال الشخصيات إلى مجرد نماذج، تسمى بأسماء عامه مثل الغريب والشحاذ والطبيب، وتشمل ثانيا: توزيع الحدث في مناظر متتابعة، من أجل توجيه مراحل تطور الشخصية المحورية نحو هدف روحي، وثالثا: تطابق المؤلف مع شخصيته المحورية، فيمر الغريب الذي في طريقه إلى الاستشهاد بألوان من العذاب العقلي حتى ينال الخلاص بالإيمان المسيحي. وليس ثمة خصم معادل للبطل في مسرحياته: فالشخصيات الأخرى كلها ليست إلا إسقاطا للصراع الداخلي عند المؤلف وتجسيدا له(19).

إن شخصية (سترندبرج) تظهر في ثلاثية (الطريق إلى دمشق) من خلال شخصية الغريب أو مجهول الهوية الذي يعمل كاتبا ويدمن الشراب ويعادي الكنيسة، ويتضح لنا موقفه من خلال حواراته ومن خلال ما تقوله عنه الشخصيات الأخرى التي تمثل العقل الباطن أو لا وعي الكاتب نفسه، والتي تجعل شخصيته المحورية أقرب إلى الحلم، ولا يمكن تفسيرها وفق الأبعاد الثلاثة التقليدية للشخصية المسرحية، وذلك لأن هذه الشخصية مقطوعة عن امتداداتها الاجتماعية، وهي لا تخرج عن كونها نتاجا لأوضاع معينة.

في هذه المسرحية يطرح الصراع الدرامي في الظاهر في صورة تحدي بروميثي لله، حيث نجد شخصية مجهول الهوية وهو يناوئ (غير المرئي) ويتحدى القوى غير المنظورة أن تضربه بصاعقة من البرق، كما يعمل على تحرير البشرية من الآلام التي هي في حقيقتها كبت نفسي، كذلك فإن أولئك البشر الذين سيخلصهم، والشخصيات التي تمثل القوى غير المنظورة التي يصارعها، ليست إلا إسقاطات في ذهنه(20).

إن مسرحية (الطريق إلى دمشق) تستبدل وحدة الحدث بوحدة الأنا التي تشكل أرضية لها، ويأخذ الحدث استمراريته هنا على شكل مشاهد متسلسلة غير مترابطة ضمن علاقة لا تقوم على السببية لأن المشاهد لا ينتج أحدها عن الآخر، فالغريب يعيش أزمته نتيجة للأحداث التي كانت سبباً في معاناته، ونتيجة للأحلام والأحاسيس التي تضطرب في عقله الباطن والتي تجعله يدرك أن خصمه ليس إلا جانباً من ذاته. أما الشخصيات الأخرى فهي تمثل ذواتاً بديلة أو ذواتاً مساعدة، فالشحاذ مثله في ذلك مثل الغريب، يحمل على جبهته ندبة ناتجة عن ضرب أخيه له بالبلطة، وهو مثل الغريب أيضاً يمثل كلاً من شخصيتي قابيل وهابيل، فالشحاذ والغريب تتفق ملامحهما مع وصف لمجرم مطلوب القبض عليه، وعندما يصف حملة النعش شخصية الميت الذي يحملونه في كفنه، نجد أن الميت يشبه الغريب(21).

إن محاكاة شكل الحلم هو الشكل الذي قد يبدو منطقيا في مسرحيات (سترندبرج) التعبيرية، ولا وجود لوحدتي الزمان والمكان في ظل التجارب والتخيلات والعبثيات التي عززت (دراما المحطات) التي تشكل (الفضاءات الغائرة في الروح التي يقطعها البطل في الغابات وبين الأفراد والمدن والله بحثا عن الموازنة المفقودة بين عالمه والآخر (...)، إنها المحطات التي يتوقف بها البطل ليعانق عذاباته وجحيمه وليس له من يد في أن يلقاها)(22) فدراما المحطات تجرد الأشخاص من هوياتهم، وتقدمهم كأفكار مجردة ضمن سلسلة متتابعة من المشاهد التي لا تشكل مع بعضها حدثاً موحداً، بل تشكل الأنا أو اللاشعور بالنسبة للشخص الحالم أو البطل، وبما أن حيز الأنا ليس حواريا، فإن الحوار الذاتي يفقد طابعه الاستثنائي الذي لا بد من تخصيصه في الدراما، وذلك حتى يكشف عن الحياة النفسية وهذيانات الشخصية المكبوتة بشكل غير محدود، (إن عالم المسرحية هنا - باعتباره عالما ذهنيا- يعد مغلقا على ذاته، ومن ثم لا يمكن الهروب من تلك الرؤية المفزعة. إن التشوه الذي يصيب الشخصيات التي تمثل انعكاساً للذات المحورية يعكس الذنب الذي أقترفه مجهول الهوية، كما الأثر النفسي الناتج عن كسره للوصايا، أيضا فإن حدوث هذه الكوابيس يرجع إلى إفلاس مجهول الهوية، وفقدانه القدرة على الإبداع، ومن ثم فإن الحل يكمن في الإرادة، والقدرة على تغيير هذا العالم الداخلي من خلال المخيلة الشعرية(23)، وبذلك فإن المؤلف يحاول من خلال دراما المحطات التعبير عن أزمته بشكليها الروحي والفلسفي موضحا الأسباب التي تقف خلف كل عوامل الإحباط والفشل التي يعاني منها، ويبقى تطور شخصية البطل التعبيري عند (سترندبرج) يختلف عن تطور الشخصيات التي يقابلها في محطات مسيرته، والتي لا تظهر كثيرا إلا في لقاءه بهم وضمن إطار رؤيته.

وفي مسرحية (لعبة حلم) 1902م اتجه (سترندبرج) إلى بناء مسرحيته بشكل اقترب من أنشطة العقل الباطن، وقد كانت أفكاره - عندما كتب المسرحية - قد تأثرت بآراء الفيلسوف الألماني (إدوارد فون هارتمان) التي أوردها في كتابه (فلسفة اللاوعي)، لذلك فقد جاءت شخصيات المسرحية حلمية الطابع وأقرب إلى الأفكار المجردة، وهي تصدر عن عقل متوقد مشحون بالهموم والمعاناة، لا من خلال مملكة النوم، وإنما هي أقرب ما تكون إلى مملكة اللاشعور والعقل الباطن، ففي مقدمة المسرحية كتب (سترندبرج): (حاول المؤلف في هذه المسرحية أن يقلد شكل الحلم غير المترابط، والذي يبدو مع هذا شكلاً منطقياً. كل شيء يمكن أن يحدث، كل شيء ممكن ومرجح. الزمان والمكان ينتفيان. الخيال يتجاوز الواقع الهزيل وينسج أنموذجا جديدا: مزيج من ذكريات، تجارب، ابتداعات غير مقيدة، تناقضات وارتجالات. الشخصيات تنفصم وتندغم، تتناوب ادوار بعضها، تتمدد وتتكاثف، تذوب وتتحد، ولكن ثمة وعيا واحدا يحكم كل شيء: وعي الحالم. في هذا الوعي ما من أسرار ولا تناقض، لا شك ولا قانون. انه لا يدين ولا يبرئ، انه يعكس فحسب(24).

يتخذ (سترندبرج) من الأنا المنفرد الذي تمثله (ابنة الإله أندرا) والعالم المتغرب - المتشيئ أساسا لبناء مسرحية (لعبة حلم)، وتقوم ثيمة المسرحية على (أن الرؤية الإنسانية ليست إلا نتاجا لإبداع تلك القوة القدسية الأساسية، أو ذلك الجوهر الروحي الذي يقسم بين البشر جميعاً. ومن ثم فالحياةذاتها ليست إلا حلما خادعاً ليس البشر فيه إلا أطياف وإن كان لهم كياناً مادياً، وكما تؤكد الصورة الختامية الخاصة بالنار والزهور فإن الموت هو بالفعل ما يوقظنا من هذا الحلم(25).

تنوب في المسرحية مجموعة من الشخصيات عن الكاتب كشخصية (الضابط) الذي يصوره (سترندبرج) وهو متمرد على الله، وشخصية (المحامي) التي تشبه شخصية المسيح في تحملها لخطايا العالم وصراعها من أجل الضعفاء والمساكين، أما شخصية (الشاعر العالم) فتتجسد من خلالها فكرة المعارضة بين الخير والشر، والجمال والقبح.. الخ، حيث تظهر من خلالها سلسلة من المتناقضات، (ولما كان قد تحول إلى مذهب دارون، فهو يميل إلى تصوير الشخصيات وفقا لبقاء الأصلح، والانتقاء الطبيعي والوراثة والبيئة(26).

إن المؤلف ينزل (ابنة اندرا) التي تشكل شخصية رئيسة في المسرحية - من الأعلى، فها هي تقف شامخة فوق أعلى سحابة بينما تناديها الأم بالحيطة والحذر عند هبوطها، ولما كان الإله اندرا (قد سمع نواح البشر يتصاعد من أسفل، فقد قرر أن يبعث الابنة عبر الأبخرة القذرة لترى إذا كان نواح البشر له ما يبرره (...)، ومما يدل على مدى تحول سترندبرج عن كراهيته القديمة للنساء، إنها - على غرار اليانورا في عيد الفصح - شبح أنثوي تعبر عن عطف المؤلف على مصير البشرية واستعداده لافتداء الإنسان بمشاطرته آلامه)(27)، لذلك فلا يتوانى (سترندبرج) هنا عن تخليد (ابنة اندرا) بإنزالها من السماء محاولا بذلك الدلالة على علو مكانتها، ومن ثم ارتفاع قيمتها الفكرية وتطلعاتها الإنسانية التي تتصف بها.

إن مسرحية (لعبة حلم) تجسد إيمان المؤلف الحقيقي والواضح بحياة الأحلام، حيث يعيد المؤلف من خلالها إنتاج بنية الحلم وليس محتواه الفعلي، فهي تعبر من خلال شخصياتها عن العقل الشعوري الخاص به، إذ تبدو الشخصيات وكأنها مرآة عاكسة لهموم المؤلف وآلامه معبرة بذلك عن وجهة نظره بكافة تناقضاتها في سبيل الوصول إلى هدف المسرحية القائم على استحالة حل اللغز الأليم للوجود، إذ (أن البشر ليسوا إلا أرواحاً حبيسة أجساد، ويقضون عقوبة الحياة في وجود قوامه المادية. إن سر الباب في هذه المسرحية يكمن في العدم، الذي تتطلع إليه الطبيعة الروحية للإنسان خلافاً مع الوجود المادي له، فالمعاناة في هذا الإطار تصبح بمثابة العامل المساعد الذي يعمل على تجريد الروح، وذلك عن طريق جعل الحياة اليومية أمراً لا يطاق)(28). فالخبرة الشخصية للمؤلف مع الأحلام تجعله لا يستطيع الفصل بين الخيال والواقع، وبالتالي قبول كل فكرة تطرح نفسها على ذهنه، حتى لو بدت بمعايير العقل الواعي فكرة لا أخلاقية ولا يمكن لها أن تخضع للمنطق المألوف.

إن مسرحية (لعبة حلم) هي بمثابة ارتياد للذات وهي (تكاد تكون خالية تماما من أي تذمر شخصي، ذلك لان الدراما لم تعد عند سترندبرج عملا من أعمال الانتقام بل وسيلة للتعبير عن الشفقة على جميع الكائنات الحية)(29)، فهو يظهر معاناة الإنسان من خلال تضخيمها، لتظهر في الوقت نفسه الفرق بينها وبين حياة السعادة الخاصة بالبشر، وكل ذلك يأتي بهدف تحقيق الشفقة والعطف على هذه الكائنات وعدم إنزال العقاب بها، لأن الإنسان عند (سترندبرج) يكفيه أن يكون إنسانا حتى يصبح جديرا بالشفقة.

الصفحات