أنت هنا

قراءة كتاب عن الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عن الديموقراطية

عن الديموقراطية

كتاب " عن الديموقراطية " ، تأليف روبرت أد.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

 لكن حتى ولو قسمنا المجال لأنفسنا في تقرير ما هي أنظمة الحكم التي تعدّ «شعبية»، أو «ديمقراطية»، أو «جمهورية»، فإن صعودها وانحدارها لا يُمكن أن يُعتبرا صعوداً ثابتاً إلى الأعلى حتى الوصول إلى قمة عالية مع وجود فترات انحدار قصيرة هنا وهناك. يبدو مسار تاريخ الديمقراطية، بدلاً من ذلك، مثل طريق المسافر الذي يعبر صحراء ممتدة لا نهاية لها ولا تتخلّلها سوى تلالٍ قليلة ، ويستمر ذلك إلى أن يبدأ الصعود الطويل في النهاية إلى ذراها الحالية (الشكل 1).

ثانياً، إنه من الخطأ الافتراض أن الديمقراطية قد ابتُكرت مرةً واحدة، ولدينا اختراع المحرّك البخاري على سبيل المثال. يعني ذلك أنه عندما وجد باحثو علم الإنسان والمؤرّخون أن أدواتٍ أو أنشطة مشابهة ظهرت في أزمنة وأمكنةٍ مختلفة، أرادوا معرفة كيفية نشوء هذه الظواهر المنفصلة. هل انتشرت تلك الأدوات والأنشطة عن طريق انتشارها من مخترعيها الأصليين إلى جماعاتٍ أخرى، أم أنها اختُرعت بصورةٍ منفصلة على أيدي جماعاتٍ مختلفة؟ يصعب عادةً، ولعله يستحيل، العثور على جوابٍ وافٍ. يصدق الأمر ذاته على تطور الديمقراطية في العالم. ما هو مقدار انتشار الديمقراطية الذي يُمكن تفسيره، ببساطة، على أنه انتشار من مصادرها الأولى، وكم هو المقدار، إذا وُجِد، الذي ابتُكر منها بصورة مستقلة في الأزمنة والأماكن الأولى؟

لكن بالرغم من أن الجواب بالنسبة إلى الديمقراطية يترافق مع مقدارٍ كبيرٍ من الشك، إلا أن قراءتي للسجلات التاريخية تجري في جوهرها على النحو الآتي: بعض هذا التوسع الذي شهدته الديمقراطية - ولربما مقدارٌ كبيرٌ منه - يُمكن إرجاع معظمه إلى انتشار الأفكار والممارسات الديمقراطية، لكن هذا الانتشار لا يقدّم لنا تفسيراً كاملاً. يبدو الأمر وكأن الديمقراطية قد ابتُكرت غير مرة، وفي أكثر من مكانٍ واحد، أي مثل النار، أو الرسم، أو الكتابة. إذا كانت الظروف مؤاتية لابتكار الديمقراطية في مكانٍ وزمانٍ ما (في أثينا مثلاً في حوالى العام 500 ق.م)، أفلا يصح القول إن ظروفاً مؤاتيةً مشابهة قد ظهرت في أمكنةٍ أخرى؟

إنني أفترض أنه يُمكن ابتكار الديمقراطية وإعادة ابتكارها بشكلٍ مستقل كلما توافرت الظروف المناسبة. لكن الظروف المناسبة قد توافرت بالفعل على ما أعتقد في أوقاتٍ مختلفة، وفي أمكنةٍ مختلفة. ظهرت ظروف مناسبةٌ معينة على الدوام، وهي التي ساندت الميل نحو تطوير حكمٍ ديمقراطي، أي مثلما ساعد وجود الأرض القابلة للحراثة على تطوير الزراعة بشكلٍ عام. يمكننا الافتراض، ولهذا السبب، أن صيغةً ما من صيَغ الديمقراطية لربما نشأت في أنظمةٍ قبلية قبل وقتٍ طويلٍ من التاريخ المدوّن، وذلك بسبب توافر ظروفٍ ملائمة.

أريد الآن استعراض هذه الإمكانية: لنفترض أن أشخاصاً معيّنين يشكلون مجموعة مترابطة بشكلٍ معقول - «نحن» و «هم»، أو نحن والآخرون، جماعتي وجماعتهم، قبيلتي والقبائل الأخرى. دعونا نفترض، إضافةً إلى ذلك، كله أن تلك المجموعة - القبيلة مثلاً - تمتلك استقلالية معقولة عن الغرباء عنها. يعني ذلك أنه بإمكان أفراد القبيلة، على سبيل المثال، إدارة شؤونهم بشكلٍ أو بآخر من دون أي تدخلٍ من الغرباء عنهم. دعونا نفترض أخيراً أن عدداً لا يُستهان به من أفراد المجموعة، وربما كبار السن من أفراد القبيلة، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم يقفون على قدم المساواة لإبداء آرائهم في إدارة شؤون تلك المجموعة. أعتقد أنه في ظلّ هذه الظروف يُحتمل كثيراً بروز النزعات الديمقراطية. ينشأ الدفع نحو المشاركة الديمقراطية نتيجة ما يمكننا أن نطلق عليه منطق المساواة.

عاش البشر معاً على امتداد فتراتٍ طويلة من الزمن في مجموعاتٍ صغيرة، وتمكنوا من البقاء على قيد الحياة عن طريق صيد الطرائد وجمع الجذور، والفواكه، وثمار العليق، وعطاءات الطبيعة الأخرى، ولهذا لا بد وأنهم طوروا في بعض الأحيان نظاماً يتحرك بموجبه عددٌ لا بأس به منهم بحسب منطق المساواة - أقلُّه الأكبر سناً منهم، أو الذين يمتلكون قدراً أكبر من الخبرة - وذلك للمشاركة في أي قرارات يضطرون إلى اتخاذها بوصفهم مجموعة متميزة. كانت هذه هي النتيجة، في الواقع، التي أوحت بها الدراسات التي جرت على المجتمعات القبلية غير المتعلمة. يمكننا القول تبعاً لذلك: إن صيغةً ما من صيَغ الديمقراطية البدائية، وعلى مدى عدة آلافٍ من السنين، كانت هي النظام السياسي الأكثر «فطرية».

إننا ندرك الآن، على أيّ حال، أن هذه الفترة الزمنية الطويلة قد انتهت. يعني ذلك أنه عندما بدأ البشر بالاستقرار لفتراتٍ زمنية طويلة في مناطق ثابتة، وغالباً من أجل الزراعة والتجارة، فإن أنواعاً معيّنة من الظروف المؤاتية للمشاركة الشعبية في الحكم، والتي ذكرتها تواً - أي هوية الجماعة، والقدر القليل من التدخل الخارجي، وافتراض وجود نوعٍ من المساواة - أصبحت نادرة. يعني ذلك أن صيَغاً أخرى من الحكم الوراثي والهيمنة أصبحت أكثر «ملاءمةً». اختفت نتيجة لذلك الحكومات الشعبية من بين الجماعات المستقرة، واستمر ذلك على مدى آلاف السنين. استُبدلت هذه الجماعات بأنظمة الحكم الملكية، والاستبدادية، والأرستقراطية، أو حكم الأقلية، وجميع هذه الأنظمة تستند إلى صيغةٍ ما من الامتيازات أو الوراثة.

يبدو كذلك أنه في حوالى العام 500 ق.م. عادت بعض الظروف الملائمة إلى الظهور مجدداً في أماكن عديدة، كما أن مجموعات صغيرة وقليلة بدأت بتطوير أنظمة حكم قدّمت فرصاً واسعة للمشاركة في القرارات التي تتخذها الجماعة. يمكننا القول إنه تم إعادة ابتكار ما يمكن أن نطلق عليه اسم الديمقراطية البدائية، لكن بصيغة أكثر تقدماً. نشأت أهم هذه التطورات في أوروبا، كما ظهرت ثلاثة منها على سواحل البحر المتوسط، بينما ظهرت صيغٌ أخرى في شمال أوروبا.

الصفحات