أنت هنا

قراءة كتاب عن الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عن الديموقراطية

عن الديموقراطية

كتاب " عن الديموقراطية " ، تأليف روبرت أد.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

كانت هذه المنحة حكيمة وسخيّة، لكن إذا ما نظرنا إلى الأمر من منظور الأوقات الحاضرة، فإننا نكتشف خللاً كبيراً: لم تفرض روما ثوابت حكومتها الشعبية على الأعداد المتزايدة والضخمة من مواطنيها الساكنين على بعد مسافاتٍ كبيرة من روما. لكن نستغرب من منظورنا الحديث للأمور أن تكون المجالس التي كان يحق للمواطنين الرومانيين المشاركة فيها قد تابعت الاجتماعات داخل مدينة روما، أي كما كانت الحال عليه من قبل - عُقدت الاجتماعات في مبنى الفوروم المهدّم ذاته الذي لا يزال السياح يزورونه حتى هذه الأيام. لكن بالنسبة إلى معظم المواطنين الرومانيين الذين كانوا يعيشون في مناطق هذه الجمهورية البعيدة، فإن المدينة كانت بعيدة جداً عنهم بحيث لا يتمكنون من الحضور إليها، أقلُّه من دون بذل مجهود استثنائي وكلفةٍ كبيرة. يعني ذلك أن أعداداً متزايدةً من المواطنين كانت محرومةً عملياً من فرصة المشاركة في اجتماعات مجالس المواطنين التي تُعقد في قلب نظام الحكم الروماني. كان هذا الوضع أشبه ما يكون بمنح المواطنين الأميركيين حق التصويت في الولايات الأميركية المختلفة مع توسّع البلاد، وحتى لو كان الناس في الولايات الجديدة لا يتمكّنون من ممارسة حق التصويت إلا إذا حضروا إلى واشنطن العاصمة.

لكن بالرغم من كون الرومانيين أشخاصاً مبدعين وعمليين، إلا أنهم فشلوا في تطوير نظامٍ عملي للحكم التمثيلي يستند إلى ممثلين منتخَبين ديمقراطياً انطلاقاً من ممارسة انتخابهم لمسؤولين هامين في مجالس المواطنين التمثيلية.

لكن قبل التسرّع في الاستنتاج أن الرومان كانوا أقل إبداعاً وقدرة مما هم عليه بالفعل دعونا نذكّـر أنفسنا بأننا اعتدنا النظر إلى الابتكارات والاختراعات بالنسبة إلينا والتساؤل لماذا لم يعمد أسلافنا إلى اكتشافها في أوقاتٍ أبكر بكثير. يعمد معظمنا إلى اعتبار معظم الأشياء أمراً مفروغاً منه، لكنها بقيت تنتظر اكتشافها في الماضي. تتساءل الأجيال المقبلة بدورها عن سبب تجاهلنا بعض الاختراعات التي ستعتبرها أموراً مفروغاً منها. ألا يُحتمل أننا، مثل الرومان، لن نُصبح مبدعين بما يكفي في إعادة تشكيل ثوابتنا [أنظمتنا] السياسية، وذلك بسبب ما نعتبره أموراً مفروغاً منها؟

لكن بالرغم من أن الجمهورية الرومانية استمرت زمناً أطول بكثير من الديمقراطية الأثينية، وأطول من أي ديمقراطية حديثة حتى الآن، إلا أنها تقوضت بعد حوالى العام 130 ق.م. بسبب الاضطرابات الداخلية، والحروب، والنزعة العسكرية، والفساد، وهبوط الروح المدنية الصلبة التي خيّمت في السابق على المواطنين. أما القليل الذي تبقّى من الممارسات الجمهورية الأصيلة فقد تلاشى تماماً مع دكتاتورية يوليوس قيصر. لكن بعد اغتيال قيصر في العام 44 ق.م. فإن الجمهورية التي حكمها كل مواطنيها ذات مرة تحوّلت إلى أمبراطورية يحكمها أباطرتها.

تلاشى حكم الشعب تماماً في جنوب أوروبا مع سقوط الجمهورية. يمكننا القول إن هذا الحكم تلاشى تماماً عن وجه الأرض فترةً تقرب من ألف عام، باستثناء أنظمة سياسية لقبائل صغيرة متناثرة هنا وهناك.

إيطاليا: عاد الحكم الشعبي إلى الظهور في عددٍ من مدن شمالي إيطاليا في حوالى العام 1100م، وكأنه نوعٌ من الأنواع المنقرضة التي عادت إلى الظهور بعد تغيّرٍ مناخي كبير. كان ذلك، ومجدداً، في مدنٍ - دول صغيرة نسبياً، تطورت فيها أنظمة الحكم الشعبية، وليس في مناطق أو بلدانٍ واسعة. كانت المشاركة في الهيئات الحاكمة لهذه المدن - الدول مقصورة في البداية على عائلات الطبقات العليا: النبلاء، كبار ملاكي الأراضي، وما أشبه ذلك، الأمر الذي يذكّـرنا بالنمط الذي كان مألوفاً في روما، والذي تكرّر في خلال ظهور الحكومات التمثيلية الحديثة. لكن سكان المدن، الذين كانوا في أسفل السلّم الاجتماعي - الاقتصادي، بدأوا بمرور الوقت، بالمطالبة بالحق في المشاركة. أما أفراد من نُطلق عليه هذه الأيام الطبقات الوسطى - الأثرياء الجدد، صغار التجار والمصرفيين، وأصحاب المهن المهرة المنضوين إلى لواء النقابات، والمشاة من الجنود الذين يحاربون تحت إمرة الفرسان - فلم يكونوا أكثر عدداً فحسب، بل تمكنوا من تنظيم أنفسهم. يُضاف إلى ذلك، أنهم تمكّنوا من التهديد بقيامهم بحركات تمردٍ عنيفة، وتنفيذها إذا ما تطلب الأمر ذلك. كسب هؤلاء، الذين كان يُطلق عليهم لقب popolo في بعض الأحيان، الحق في المشاركة في حكومة المدينة.

ازدهرت هذه الجمهوريات فترة تربو على قرنين من الزمان في عددٍ من المدن الإيطالية. كان عددٌ كبير من هذه الجمهوريات، مثل فلورنسا والبندقية، بمنزلة مراكز للثراء الاستثنائي، والحِرَفيّة الرائعة، والفن الراقي، والهندسة المُدُنية التي لا يُعلى عليها، وميداناً ضخماً للشعر والموسيقا، وإعادة الاكتشاف الحماسي للعالم القديم المتمثّل باليونان وروما. انتهى عند هذا الحد ما أطلقت عليه الأجيال التالية العصور الوسطى، وبرزت تلك الانطلاقة الهائلة للإبداع الباهر، أو ما سمّي عصر النهضة.

لكن شاء سوء حظ تطور الديمقراطية أنه عقب منتصف القرن الرابع عشر تراجعت بعض الحكومات الجمهورية في بعض المدن الرئيسة أمام الأعداء الدائمين لأنظمة الحكم الشعبية: التراجع الاقتصادي، الفساد، حكم الأقلية، الحروب، الغزو، استيلاء الحكام الاستبداديين على السلطة، سواء أكانوا من الأمراء، أم الملوك، أم الجنود. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. اعتُبرت المدينة - الدولة، إذا ما نظرنا إليها من منظور التيارات التاريخية طويلة الأمد بوصفها أساس حكم الشعب، وذلك بسبب ظهور منافسٍ يتمتع بقوى خارقة: الدولة القومية أو البلدان القومية. كان من المحتّم إدخال المدن والبلدات في هذا الكيان الأكبر والأقوى، وهكذا أصبحت وحداتٍ تابعة لحكومة البلاد.

انتهى بذلك عصر المدينة - الدولة بكل ما كان له من أمجاد.

الصفحات