أنت هنا

قراءة كتاب حبيبتي كريت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبيبتي كريت

حبيبتي كريت

رواية " حبيبتي كريت " للكاتب التركي سابا آلتن صاي، والتي ترجمها للعربية محمود أمين آغا، نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 8
لفّ الصمت منارة جامع «هنكار» عند السّاحة تماماً، وتسلّل عبر النوافذ المفتوحة للبيوت، وتغلغلَ في جوهر كلّ عنصر حيّ أو جامد: النّساء، الأولاد، بيوت المؤونة، جرّات زيت الزيتون، وأواعي الخبز المجفّف. عمّ الصمت كل شيء، وغدا جزءاً من الواقع.
ارتفعت صيحة مجهولة من بين الحشود. هذه الصيحة زعزعت سكينة الصّمت، كسّرت جداره مثل فخّارة شراب تصطدم بالجدار، فينكفئ السائل على الأرض.. مزّقتْه.. الجلجلات التي صدرت عن المحتشدين ملأت الفراغ الّذي أحدثته هذه الصّرخة. وعند مدخل السّوق ترى الباعة الّذين جاؤوا لبيع الخضراوات من البساتين القريبة، والمتسوّقين، والجنود والنّساء، وإمام الجامع، والمسيحيّين، وجنود القنصليّات، وصيادي السّمك، وكاهن الكنيسة، وزوجته، والأولاد، قد رفعوا أصواتهم معاً، وراحوا يدورون هنا وهناك، وهم يتخبّطون، يتشرذمون ويتجمعون مثل كرات صغيرة، يتصارخون، يتصايحون، يئنّون، يتألّمون، يبكون، يتكاثفون، ينفرجون، يثورون، يجلسون على ركبهم، كانوا يتصارخون واضعين رؤوسهم بين أيديهم.
في وسط الزحام الصّاخب الشبيه بخليّة نحل هائجة تعطي فراخاً جديدة، ارتفعت يد طويلة، ومعصم محسور عن الثّوب، بين أصابعها سكّين لمعت تحت أشعة الشمس الحارة في هذه السّاعة. أعشى الوهج الذي انعكس عن تلك السّكينة الأبصار للوافدين من القرى، ومن «كوسترينوس» و«هاليبا» ارتفعت صيحات النّساء اللواتي يسقين نبْتات «النّعنع» على النوافذ، هناك، وهربْنَ إلى داخل البيوت.
اهتزّت السّكّين بقوّة على أثر صوتٍ هائج مثل الزئير جاء من الخلف:
«كلّ شيء يتعلّق بكياني هو كريتيّ! من يتجرأ على طرد الحامية العثمانية من هذه الأراضي؟ مَنْ.. هاها؟!!».
ذلك المعتصم كان سينقضّ بكلّ تأكيد على عنق إنسان مسيحيّ. وبينما هو يهمّ بذلك، أمسك أحدهم بالذّراع من المرفق، ولواه، وقبض عليه بإحكام، إذ التصق فجأةً بتلك اليد، وضغط على راحة اليد بقوّة، وهزّها. وبتوتّر الأصابع وارتخائها، وانفتالها، انزلقت السّكّينة بانسياب، وسقطت، ونزلت اليد، ببطءٍ ورخاوة، وهوت إلى الأرض دون انثناء.
دمدم ابراهيم من بين شفتيه: «لا ترجُ البلاء يا «بيجي ريكو!»
نظر بيجيريكو إلى ابراهيم نظرة ذات معنى، وكأنّه ينظر إلى «كوستاس» الذي قاسَمَه المأكل في الجبل في الانتفاضة الكبيرة. يقال: إنّه رأى كوستاس وهو يتربّص بصديق طفولته «حسن آكي» من الوراء، ويذبحه. هل يقف هكذا، فينقضّ بدوره عليه، ويلصق سكينه على بلعومه؟ وبعد ذلك يتروّى.. ويبدأ الاثنان في البكاء.
عينا ابراهيم الآن مثل عيني غزال أصيب برصاصة. سيتوسّل إليه قليلاً ويقول له بعد ذلك: «فدْيتُك يا «بيجيريكو»، الوضع متوتر مثل وتر كمنجة مشدود، فلا تفتحْ علينا مشاكل ووجع رأس». وربّما يرتمي على قدميه. كان منخراه يرتجفان. ما زالت يده تضغط بقوة على معصم «بيجيريكو». حتّى لو دلّك المعصم بزيت الزيتون فلن تذهب زُرْقته، زَفَرَ «بيجيريكو» جرعة الهواء التي استنشقها إلى رئتيه. وانحنى وهو يتأفّف بأنين حادّ، ووضع رأسه بين يديه. تكوّم مثل كرة وراح يتمايل مرةّ إلى الأمام، ومرّة الوراء. دفعه ابراهيم، وضربه لكمتين على صدره.
«لا يلزمنا الآن مُجازفة حمقاء!»
تنفّس المحتشدون الصُّعداء بعد كتم أنفاسهم. الأكتاف المشدودة انبسطت. الرؤوس التي انكمشت بين الأكتاف تمتدّ، تهتزّ. الحناجر تتجرّع الأنفاس. تبدأ الأصوات تغمغم بتذمّر أولاً، ثم علا هدير في المحيط. وبعد ذلك تكلّم كلّ واحد على هواه، وتعالت الأصوات.
قال تراكيس: «ابراهيم.. سلمْتَ! كادَ أن يعرّض أرواحنا وأرواحكم للخطر». تفقّد ابراهيم أزرار قميصه منزوع الكمّ على الأرض. عدّلَ وَضْع سترته المطرّزة بمربّعات. أحد طرفَيْ سلساله قد تقطّع، فكَّ الطّرفَ الآخر ووضعه في كفّه.
نظرَ ابراهيم إلى أبيه. رآه وهو يمشي مع «كوشينبوتو» إلى المقهى بترنّح. وكان «كروموزاكيس حسن» أيضاً معهم. كان الثلاثة قريبين من بعضهم يتناجون، كان أبوه يذهب حيناً ويغدو حيناً، يرفع بصره طوراً، ويلقي النظرات حوله طوراً. لابدّ أنّه ينتظر ابنه.
توجه ابراهيم إليهم. مصطفى أفندي، لا ريبَ، سيعانق ولده الآن، وإن كان الوضع لا يسمح بذلك، سوف يضمّه إلى صدره، ويقبّله من جبينه، وسيقول له: «بوتوكوم» أي بيضة عشيّ، على الأقل ستدمع عيناه، ولن يكون ذلك مناسباً.
تلاقى الأب والابن وجهاً لوجه. تريّث مصطفى أفندي قليلاً، لم يقلْ له إلا: «كنْ حذراً يا بنيّ».

الصفحات