أنت هنا

قراءة كتاب حبيبتي كريت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبيبتي كريت

حبيبتي كريت

رواية " حبيبتي كريت " للكاتب التركي سابا آلتن صاي، والتي ترجمها للعربية محمود أمين آغا، نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

«سأكون يا أبي. هل تأتي؟»
«اذهبْ أنت. نحن سنمرّ على المقهى، ثمّ أعود»
نظر إلى ابراهيم من الخلف. إذا ألمّ مكروه بابْنه الضخم كالعملاق، الإنسان النّبيل الذي يحرّك قلوب بنات «كريت»، إذا حدث شيء لولده خطيب الملاك الجميل «جميلة» لقرّة عينه، فقد يضيع صوابه ويفقد عقله. مَنْ يؤذي أصلاً هذا الفتى البريء، الطاهر القلب مثل فراخ القُمْريّ، والثّابت الجِنَان مثل النّسر الكاسر؟! أيّ رصاصة طائشة يمكن أن تصيبه في داخل أروقة شوارع «كريت» أو مسارح الصّيد، أو جنبات البيوت، أو في ميدان سبلانتسيا مثلاً؟ لا سمح الله!».
لا حدّ للخواطر والأفكار التي تجول في عقله. يموج فكره بسيلٍ من المخاوف والغموم. في الأوقات العصيبة التي شهدتها «كريت» حين تحوّلت إلى بِرْكة دم، ولاسيما في العصيان المشؤوم سنة 96(3)، حيث كمن القَتَلة «الذئاب» في أماكن كثيرة سالت عليها دماء المسيحيين والمسلمين في سفوح وقفار «هانيا» و«رَسْمو» و«سريسو». عندما أنزلوا إلى «كيريت» كتل السّلاح، أفواج الجنود دون انقطاع، حين ادخروا من المؤونة ما يكفي لسنة تقريباً، وخرجوا لملاقاة قطّاع الطرق المسلّحين، وحين صبّوا نيرانهم على المساجد والبيوت أثناء غزوهم. فخسر كلّ بيت أو عائلة من عائلات المسلمين والمسيحيّين في «كريت» ضحيّة أو روحاً، حتّى في «هانيا» إذ كان لا يجرؤ الإنسان على أن يزور جاره بعد ساعة متأخّرة من الليل، ولا أن يصل أيّ شخص إلى مطرح المصائب. كم يخاف المرءُ على فِلْذة كبدٍ له!. قال بينه وبين نفسه: «الله يحفظ ولدي وأولاد الجميع..!» محاولاً أن يبرّد غليله، ولكنْ عبثاً. النّار التي اندلعت في داخل مصطفى أفندي، سرت من حَلْقه إلى رأسه، وجعلت شعر رأسه ينتصب مثل الأشواك. انتقلت أمواج من الحرارة من هامة رأسه إلى سائر بدنه، هذه الحرارة اللاهبة، مثل رغيف حارّ يفوح منه البخار، حامت فوق رؤوسهم، أكلتهم نيران الغمّ جميعاً أيضاً. إنّ مشاعر الكرب والكدر الّتي خنقت الحناجر، ومنعتْها من النُّطق والبوح، فلم يُسْمَعْ منها إلاّ أصوات «الأفّ» الهامسة الممزوجة بالشّكوى الدفينة؛ قد توشّحت بالصمت، لكنها ساكنتهم باستمرار، فتحوّلت إلى جرحٍ دامٍ ينزف في الأعماق. آه لو تخرج من الأفواه ضمائر الصّخور الرّاسخة، لكريت وجبالها بقممها الجرْداء، لكانوا أذابوا بصيحاتهم الثلوج في التّلال والآكام مثل دموعٍ دافئة، وأرسلوها عبر السّفوح إلى الأسفل، لَبَقيت «كريت» تحت سيول الماء.
ترك الحشْدُ وراءه الشخص الذي تراخى ساعداه على جنبيه، وانكمش فمه ولسانه، واختنق الصراخ في حنجرته، وتوجّه فوراً إلى المقهى الواقع هناك. جلسوا على أوّل كرسيّ وجدوه، ونفثوا آلامهم الداخلية مع دُخان تَبْغِهم إلى الهواء.
ارتدى النّادل «أبدالا» صدريته التي نزعها ورماها قبل قليل، بلفّها حول خصره. سوّى كمّ قميصه، وأسرع لتأمين القهوة والماء والشّراب للمحتشدين.
كان النادلُ «أبدالا» بكداشيّاً(4). اسمه الحقيقيّ «آبدال موسى». عندما كانت أمُّه حاملاً به، مات أبوه، وبعد أن وُلِد الغلام، رأت أمه حلماً، تكرّر ثلاث ليالٍ، فصرخت «آبدال موسى. آبدال موسى». أصيبت الأمّ بحيرة كبيرة، فما كان منها إلاّ أن غيرت اسمه من «غريب» إلى «آبدال موسى». حينذاك تجلّت أمارة وجْد على محيّا الرضيع. وبقي اسمه هكذا. كان أهل «كريت» ينادونه «أبدالا». ودائماً تظهر عيناه جاحظتين، وحاجباه البارزان يظهران كبيرين. وكانت تظهر معالم الدهشة والعفوية على وجهه من كلّ شيء يراه في هذه الدنيا الكبيرة، ومن كلّ شعور يراوده. كان مستقيم القدّ فارهاً مثل العصا. ذراعاه اللتان تتدّليان على طرفي جسمه الطويل، وساقاه اللتان تنفتحان إلى الخارج أثناء مشيه، لا يستطيع ضمّها والتحكم بهما وقت العمل، فيقلب كلّ شيء يصادفه في طريقه، ولا يتجرّأ أحد على أن يقترب منه بسهولة. فيظّلون في تردّد. لكنْ أبدالا أكثر ما يكون منتظماً ودقيقاً عندما يصنع القهوة فحسْب، حيث يضع الموقد، والفحم، وصفائح الماء التي يملؤها للاحتياط، والفناجين، والركوة، في صفٍّ متناسق، ويخصّص الجزء السفلي لملاعق الحلوى، وعلبة الراحة، وعلى بعدٍ مناسب من المنضدة كان يضع أنواع النراجيل في نسقٍ بعيد.
كان يعرف عيار القهوة لكل شخص. لا يرفع الركوة عالياً إذا لم يُغْلِها ثلاث مرّات على الأقلّ. فإذا ما أخطأ أحد النّادلين في تعيير القهوة لأحدهم، فإنّه يقيم القيامة عليه، فيتكلّم مع الصّانع مزبداً وكأنّه يبصق عليه، ويأمر النّادل بسكبّ القهوة التي صنعها بنفسه على التراب تحت شجرة الحور. ثم يضع الدلّة بنفسه مرة ثانية على النار دون أن يلفظ أية كلمة، أمّا النّادل الصغير فكان يحمرّ وجهه تماماً، ويذوبُ من الحرج.
وإذا غضب على أحدهم مثلاً، تلاعبَ بعيار قهوته التي يعرفها، فيجعلها فاسدة مثل السمّ. فيقول شارب القهوة: «هذا «فارماكي»(5) زقّوم يا رجل!» وكأنّه شرب سمّاً حقيقياً فعلاً، فيفسد طَعْم فمه طوال اليوم.

الصفحات