أنت هنا

قراءة كتاب علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

كتاب " علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون " ، تأليف د.

تقييمك:
2
Average: 2 (1 vote)
دار النشر: دار غيداء
الصفحة رقم: 4

المعرفة في الفكر العراقي القديم :

لقد تميز الفكر العراقي القديم بسبقه الزمني، وأصالته التي فرضها على كل حضارات الغرب والشرق([2])، فكان طبيعيا أن تكون المعرفة ركنا أوليا من أركان الحياة العراقية القديمة.

إن عنصر التميز في هذه الحضارة إنما يكمن في المدينة([3])، ففي العصور السومرية. التي أخذت طابع العالمية والشمول على يد سرجون الأكدي بعد أن وحد الدويلات السومرية، وأنشأ دولة واحدة، تطورت لتصبح دولة عالمية أبان انتشار ثقافتها ونظامها السياسي المتحكم في العالم القديم، خاصة آسيا، ضمن مسميات مختلفة الشكل، دولة أكد، بابل القديمة، آشور وبابل الحديثة لكنها موحدة الجوهر، حتى أن ارسطو قال في حق بابل " إنها أمة أكثر منها مدينة "([4]).

لقد أخذ شكل المدينة السومرية طابعا زراعيا، فكان لأهلها حقول يحرثونها وكان للبيئة تأثير واضح على حياة المدينة، ذلك أن حياة المجتمع عندهم انتظمت حسب تقويم يوفق بين تطور المجتمع وبين تتابع الفصول([5]) خلال السنة، وهذه علاقة منطقية ما بين الانسان الأول والطبيعة لمحدودية سيطرته عليها وهيمنتها عليه وعجزه عن مقاومتها وصدها فحاول أن يبرر هذه الهيمنة بإضفاء صفة الألوهية عليها، ومحاكاتها، إذ بنى نمطا من التصورات الذهنية يتوافق والبناء المادي لها، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، قرن السومريّ الجَبَلَ، الذي يمتاز بالشموخ وغموض المسالك وسحر البناء، بالقوى الغيبية، وعده المجال الغامض لنشاطها، ومن هنا جاء بناء هياكل العبادة السومرية فوق جبال اصطناعية اعتقادا بأنها تحقق امكانية الاتصال مع الألهة([6]).

لم تكن المدينة العراقية القديمة مجرد شكل ايكولوجي، بل امتزجت في تشكيلها الدوافع والميول النفسية والحاجة الاجتماعية الخاضعة في تنظيمها للدين، فكانت المدينة مقرونة على الدوام بالمعرفة الدينية التي تبرز ملامحها في تصورات الناس عن الآلهة، لذا فقد خص العراقي القديم مدينته بعائدية ملكيتها لإله محدد يأخذ على عاتقه رعايتها والعناية بها، وكان ينظر اليه على أنه سيد اقطاعي متغيب، يصعب الاتصال به، غير أنه يعبر عن وجوده بظواهر وعلامات، واساءة فهم اوامره تسبب وقوع كارثة من الغضب المقدس، فما الناس حسب المعتقد الديني للعراقي القديم إلا مخلوقات كانت الغاية من خلقهم تكمن في خدمتهم للآلهة([7]).

لقد نتجت المعرفة الدينية العراقية عن عامل طبيعي، حيث كان لفيضان نهري دجلة والفرات في أوقات غير محددة من السنة أثره في تهديد الحياة بالدمار واللا استقرار، فعزا العراقيون القدامى ذلك اللا استقرار الى صراع الآلهة وتناحرها مع بعضها.

من هنا كان من واجب الملك العراقي القديم، أن يشق الترع ويبني السدود([8]). ففي هذا دليل وبرهان على احترام الآلهة التي تحكم المدينة وإرضائها، ولأنها تحكم بشكل متغيب، فإنها تخص أحد الأفراد ليكون وكيلها على الأرض، من خلال الصلاحيات والحقوق التي تمنح له، فيصبح إذ ذاك (إنسي ـ أي الحاكم بأمر الآلهة) تمييزا له عن (لوكال ـ أي الملك العلماني)، الذي كثيرا ما يميل الى أن يصبح (إنسي) لضمان استمرار سلطته([9]).

إن التعامل ما بين الآلهة والناس والطبيعة، نَمَّ عن تنظيم عملي للمدينة، حيث خلق التوازن العجيب بين توتر الشجاعة والاحساس باعتماد الانسان على قوى خارقة، وبين المدينة في تنظيمها ومؤسساتها، ومواطنيتها المغمورة بالخوف([10])، في حدود التعامل الذي حاول العراقي أن يصبغه بصبغة الموضوعية في العلاقة ما بين الطبيعة والانسان، لاسيما في العهد السومري، لما للطبيعة من وجود حسي، قابله تصور ذهني، تحول في العهد الأكدي الى ارتباط ذاتي([11])، بفعل عوامل كثيرة أوضحها التثاقف، لشمولية النهج، فالصفات التي اسبغها عليها. لم تكن خيالات بعيدة عن الواقع الخاضع للملاحظة والتجربة الانسانية، بل شملت الواقع أولا، لتمتد الى الطرف الآخر (المثالي) منه([12]).

الصفحات