أنت هنا

قراءة كتاب علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون

كتاب " علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون " ، تأليف د.

تقييمك:
2
Average: 2 (1 vote)
دار النشر: دار غيداء
الصفحة رقم: 6

المعرفة في الفكر المصري القديم :

لا يختلف الفكر المصري عن الفكر العراقي في انسجامه مع الطبيعة، إلا أنه تميز عن الأخير بالاستقرار والثبوت، ذلك أن موسم فيضان النيل يأتي في موعد محدد من كل سنة من منتصف تموز حتى منتصف تشرين الثاني، فأطلقوا على هذا الفصل أسم فصل الفيضان، ثم يعقبه فصل الانبثاق، موسم البذر، من منتصف تشرين الثاني حتى منتصف آذار، وأخيرا الأشهر المتبقية هي فصل الجفاف([20]).

لقد أفرز استقرار الطبيعة المصرية مفهوما ميتافيزيقيا تجاه الحياة الآخرة، فأولاها اهتماما في حياته الحاضرة، وتمثل ذلك في منشداته الخلود، وتصور أن حياته الآخرة لا تختلف عن حياته الدنيا، وما بناؤه للأهرامات إلا إشارة واضحة الى فكرة الخلود في حياته الآخرة.

إن اللاهوت المصري يتضمن فكرة الانسجام بين المتناقضات، ضمن نطاق معرفته الاجتماعية، أزاء البيئة، وهذا ما حفز تصوره الى افتراض تقسيم مصر الى عليا وسفلى، ثم افتراضه الوحدة بينهما، في حين أن التاريخ لا يشير الى خلاف أو حقد ما بين مصر العليا ومصر السفلى([21]).

ومن صلب معرفته هذه، انبثق التفكير المصري على سائر المجالات، فعلى سبيل المثال جعل ميزة الموظف الناجح، الحسن التكيف، هو المنسجم مع العالم الذي يعيش فيه([22]).

إن مصدر المعرفة في الفكر المصري القديم يتمثل إذا بالعلاقة الناتجة عن تفاعل الطبيعة مع الإنسان، ولم تكن الطبيعة قط ذات مفهوم تجريدي، مختلف الهوية عن الإنسان، فالمصري القديم أضاف الى الطبيعة عنصر الحياة، وتعامل معها شأنه شأن العراقي القديم، ككائن حي، إلا أنه كائن ذو سطوة وجبروت، لا تضمن غضبته، ذلك حينما اعتقد بقوته الخفية، المتمثلة بفكرة الألوهية، ولهذا فإن الشعور بالولاء والحب والخوف والرهبة تجاه عنصر من عناصرها جعل المصري يعتقد بقدرة ذلك العنصر ويقدر صفاته، وبدأ يتصرف أزاءه بما يتخيل أنه يرضي ذلك العنصر([23]).

إن امتياز البيئة المصرية بفصولها الثلاث كانت من الرتابة بمكان، إذ جعلت أبناءها يتصورون عالمهم ثابتا، وغير متحرك. فلقد خرج تاما، حسب تصورهم من بين يدي الخالق وبالتالي فإن الأحداث التاريخية ليست أكثر من اضطرابات سطحية للنظام المقرر. أو أنها أحداث متكررة لمغزى لا يتغير([24]).

إن زاوية التصور المعرفي، في المجتمعات القديمة والبدائية عموما المرتكزة على أن الآلهة لها من المشاعر ما يحاكي مشاعر البشر([25])، جعلت مجمل تفسير التطور الذهني ـ الثقافي لهذه المجتمعات خاضعا الى سطوة الفلسفة الآلهية التي لا انفكاك منها، أي من ذلك العجز، حيث وجد الانسان نفسه في بدايات حياته الأولى أمام ظواهر طبيعية لا يستطيع تفسيرها دون ردها الى أفعاله الذاتية([26]).

لقد انعكست المعرفة المصرية على واقع الحياة العملية، لذلك فقد حاول المصريون أن يحولوا مجمل التصورات المعرفية الى واقع حسي، وأول مظاهر هذا الانعكاس تمثل بالنشاط الزراعي الذي اصطبغ بميزة الرتابة لكي يتماشى مع رتابة جريان نهر النيل الذي لا يتغير موسم فيضانه([27])، وكذلك انعكست هذه المعرفة على طبيعة العلوم التي سادت عندهم، ففي بلاد النهرين شغلت علوم الفلك والتنجيم اهتمامهم لما كانت عليه الآلهة من صراع حسب اعتقادهم فحاولوا معرفة الطوالع، لتجنب غضبها الذي ينعكس في الطبيعة من فيضان أو جدب، في حين برع المصريون في الهندسة والرياضيات، وهي علوم لها من النتائج ما تمتاز به من الثبات والاستقرار ما تختلف به عن علوم الفلك والتنجيم لامتياز البيئة المصرية بثبوت واستقرار توالي فصولها.

من هذا المنطلق رأى بعض الانثروبولوجيين أن الفعاليات الفكرية والذهنية للإنسان هي في الواقع حصيلة تحفيز العوامل الخارجية المحيط به والمؤثرة فيه([28]).

نخلص من ذلك أن المعرفة والواقع هما ليسا أكثر من متغير واحد، إلا أن مجال نشاط هذا المتغير يتباين، فتارة نلمس أن ميدان تفاعله هو الفكر، وأخرى يكون ميدان تفاعله الواقع، وهما في علاقة ايجابية، ولما لها من منافع عملية (لتوفيرها التبرير المعرفي لاستغلال الطبيعة) فإنها تجاوزت صيغة السلب المتمخضة عن سطوة الطبيعة.

الصفحات