أنت هنا

قراءة كتاب حبي الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبي الأول

حبي الأول

كتاب " حبي الأول " ، تأليف سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب : 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 5

سألت سِتِّي باستعطاف:

- تاخذيني معك؟

قالت سِتِّي مؤكدة:

- طبعا، طبعا، صرتِ كبيرة! نجحتِ بدروسك بلا إكمال. شاطرة، ذكية، هاتِ قشرة. كان سيدك يحب ريحة الليمون.

ناولتها القشرة بسرعة وهمة حتى تظل تعتمد علي، فتأخذني إلى أي مكان تذهب إليه. وعدت أتأمل وجهها بحب وشغف وأنا آكل عروس اللبنة.

سرحت ثانية بعينيها عبر الشباك، وقالت بصوت خفيض كما لو كانت تتحدث مع المرحوم:

- روحه في الدار وعيونه معي، هو شايفني.

- وشايفني أنا؟

ابتسمت وهي تنكش الكانون وتهز رأسها مرة لليمين ومرة للشمال:

- مرات، مرات.

- يعني متى؟ لما أغلط أو أعمل صح؟

حين يصل الحديث لهذا الموقع وتكون أمي في الدار، تصيح من بعيد:

- شبعنا أرواح وحكي فاضي، خلينا نعيش زي كل الناس.

تهمس سِتِّي:

- مسكينة وداد! يجعل حظك أحسن منها. حظها ناقص، الله يعينها.

ولا أسألها عن سبب نقصان الحظ؛ لأني أعرف ما القصة من أولها إلى آخرها. أمي المهجورة المنسية، وزواج أبي من يهودية، وهروب أمي للمستشفى حتى تنسى ما حل بها. لكن أمي لا تبدو بحظ ناقص لأني أراها، كما تبدو، سعيدة بعملها ومشغولة. أخذتني مرة لعملها في المستشفى، لأن سِتِّي ذهبت لعزاء. هناك رأيت أمي تضحك وتقفز وتطير مثل فراشة، فراشة بيضاء بلا أجنحة لكن بقبعة مثل التاج، تطير هنا وتطير هناك والكل ينادي وداد يا وداد، وطبيب كبير سأل عني، فقالت بخجل: هذي بنتي نضال. نظر إليها، وسأل بتنغيم: بنتك نضال! وكأنه غير مصدق. ورجعت للدار وأنا أسال: لماذا قال بنتك نضال، وكأنه غير مصدق أن اسمي نضال؟ اسم نضال هو اسم ذكور واسم إناث، معظم الأسماء في عمري كانت أسماء مختلطة ولها معنى، نضال وجهاد وكفاح ووسام وما شابه، فلماذا لم يصدق أن اسمي نضال؟ ولماذا أصرت أن أناديها في المستشفى باسمها وداد؟ ولماذا الطبيب قال بتنغيم وكأنه غير مصدق: بنتك نضال؟! وكأن اسمي عجيب غريب.

*****

أسموني نضال لأن اسمي كان التعبير عن المرحلة، ثم مراحل. من أسماني؟ أمي كانت بعد صغيرة، وبعد محزونة ومشغولة بهم أكبر. سِتِّي موزعة حائرة بين ابنتها وابن أخيها. خالي وحيد كان مع الثورة والثوّار. من ظلَّ إذن؟ خالي أمين المتعلم، قالوا "شيوعي" وقالوا "بعثي وقومي سوري". ما عدت أذكر بالتحديد، لم أعرف قط. هرب إلى الشام ثم بيروت والتصق هناك، يعني هاجر، مثلي أنا، لكني عدت لأستقر على سكن، جزء من وطن، وأموت هنا كما يموت البعير. من أين جاء هذا التعبير "كما يموت البعير؟" خالد ابن الوليد؟ عمرو بن العاص أم صلاح الدين؟ كل الأسماء لها تاريخ إلا اسمي؛ لأنه فعل ناقص مثل كان وما زال وما انفك، فعل ناقص. وكأن النضال لا يتأتى إلا بالعنف! وكأن العنف لا يتأتى إلا بالسيف والبارودة وزرع الألغام!

أنا ما ورثت إلا اسمي، فعل ناقص، وحملت بدل البارودة وزرع الألغام ريشة صغيرة فرسمت الدار، دار العيلة، وصور الأحياء والطبيعة، وخان التجار. قالوا من الصغر أنا فنانة، فصدَّقت الفن واعتنقته وحملته بصمة على جبيني. باطحت الدنيا كي أحمل ريشة صغيرة فيها ألوان وموسيقى وضوء ونسائم ومواويل. رسمتُ الجدة ورسمتُ البحر، رسمتُ الجبل ورسمتُ النهر، رسمتُ النساء في كل وضع يخطر بالبال، نساء ورجال ومواسم من غير حصاد في أرض بور. رسمتُ الزرع ورسمتُ الزهر ورسمتُ طبيعة صامتة فوق أرضية لا توحي بجمال الزهر. حملت لوحاتي ودرت بها في كل مكان. أقمت معارض وأتيلييهات، ورسمتُ للصحف والمجلات ولدي الآن لوحة ضخمة في اليونيسكو، وأخرى أضخم في اليونيفام، وثالثة أصغر، صغيرة جدا، بممر الجامعة العربية. أنا فنانة، هذا ما يقال وهذا ما صرت وعلى هذا أموت. لكني الآن، في هذا العمر، وبعد الدوران مثل النحلة، وبعد الصخب وكل الأضواء، وبعد الإعلام والمانشيتات وأغلفة الصحف والإعلانات، أجد نفسي الآن بلا صاحب وبلا مأوى. بقيت مثل السيف فردا. إن كان الأهل رحلوا مثلي، وأنا رحلت مثل الباقين، من ظلَّ هنا؟ ما ظلَّ هنا سوى هذي الدار. لهذا عدت هنا من جديد، لأجعل من الدار، دار العيلة، بيتي الأول هو بيتي الأخير: جاليري، ومتحف، وصور ورسومات وبراويز، مثل المعرض.

جاء النجار، وقال الخشب نخره السوس، فقلت استبدله. جاء الحداد، وقال الحديد أكله الصدأ، فقلت جدده. جاء المواسيرجي، وقال المواسير مخرومة، موضة قديمة، وكذا الحمَّام والمطبخ وبيت الراحة. قلت اخلع، كسّر، اقدح، كل المنخور والمكسور والمعثث انزله لتحت. وجاء البليط والزجّاج والمهندس وبياع العفش المستعمل، فقلت احمل، لا تبق لي إلا الهيكل وبيرو ستي وكانون النحاس وبعض اللوحات.

بدأ العمل كخلية نحل وأنا انزويت في العيلة آكل وأنام في العيلة وأرتب أوراق الأهل والرسائل في صناديق تلو صناديق. كم تركوا لي من وثائق وصور ورسائل ومفاتيح! وكم وجدت في الأدراج والخزائن صورا وبقايا وتذكارات وقصائد مخطوطة لم تنشر! بجوار اسمي، هذا ما ورثت من العيلة، قصصا وقصائد منسية ودارا وذاكرة مهجورة.

الصفحات