أنت هنا

قراءة كتاب حبي الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبي الأول

حبي الأول

كتاب " حبي الأول " ، تأليف سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب : 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 7

3

خرجنا مع الفجر وكانت المدينة ما زالت تصحو من النوم ببطء وخشوع. الشوارع خالية إلا منا، والسوق العتيق بلا زبائن، وبعض التجار يعلقون بضائعهم أو يكنسون أمام المحال ويشطفون الأرض بماء أسود، فنضطر للقفز وفحج الخطوات.

قال أحدهم بصوت مشحوط من أثر النوم:

- يسعد صباحك يا حجة.

ولم تكن سِتِّي حجة. كانت تنوي أن تحج في كل سنة، وكل سنة ترجئ حجتها، لأن وحيداً ولأن أميناً ولأن سميراً ولأن وداد، كل بدوره يشغلها بمشاكله فتؤجل حجتها وترجئها لسنة أخرى. لكن الناس كانوا ينادونها يا حجة؛ لأنها من بيت شريف كله حجاج، ولأنها بنت المرحوم فلان، وأرملة فلان، وأم واحد من الثوّار يسمونه شيخ الشباب. وبما أن ابنها يلقب بالشيخ والحاج فلان، فهي إذن مثله حجة، ولولا الحياء لأسموها شيخة على وزنه.

تخطينا السوق وخرجنا من قلب المدينة نحو المقبرة الشرقية في سفح الجبل حتى وصلنا الطريق الترابية بمحاذاة المحاجر وشيخ العماد، ثم عصيرة، قرية أم نايف والثوّار. هذا ما قيل، قالوا عصيرة بلد الثوّار. اقتحمها الإنجليز عدة مرات، لكن الثوّار في كل مكان، أحيانا هنا، أحيانا هناك، في مغر الجبال وبين الصخور وشجر الصبار، وبين الناس في السوق العتيق في المدينة وخان التجار. لا أحد يعرف بالتحديد، هم كالأشباح.

جلسنا على صخرة لنلتقط أنفاسنا ونأكل لقمة. لم نكن قد أفطرنا بعد، فأخرجت سِتِّي عرائسها وفلقات الجبن وحبات خيار. كانت تلهث من أثر الصعود، وأنا أيضا ألهث وأحك مواضع الشوك والقرّيص أعلى قدميّ. ورغم الأشواك كنت سعيدة. بالنسبة لي كانت نزهة، أواخر آيار، بداية العطلة الصيفية، بلا مدارس، وخروج من الدار العتيقة والسوق العتيق للبرية، والجو بديع، وزهور الجبل حمراء وصفراء ونهدية، ونباتات ذات روائح بعضها للأكل مثل الزعتر والشومر والسيبعة، وبعضها كعلاج للسعال وتلبك المعدة والإسهال كالبابونج، وبعضها للزينة والفرجة مثل الشقيق وقرن الغزال وبز البقرة. كانت سِتِّي تعرف كل النباتات وتقدرها وتحكي عنها بإجلال غريب كما لو كانت لها أرواح. فتقول لي: هذا الشومر الله يرضى عليه ينفع للسعال وضيق النفس، وهذي الميرمية بنت أصول، سمّوها ميرمية على اسم ستنا مريم أم سيدنا عيسى عليه السلام، تنفع للمغص والكلاوي. وهذي الحلبة تدر الحليب، تغليها النفساء وتشربها فيطفح الحليب من ضروعها مثل البقرة. فأضحك وأقول: مثل البقرة؟ لكن سِتِّي لا تضحك بل تحكي عن النباتات بجدية، كما لو كانت لها أرواح.

أنظر إلى المدينة من فوق وأحس أني بطيارة. كأني أركب طيارة. أنا لم أركب طيارة. ركوب الطيارات للطيارين، يعني الإنجليز، يعني اليهود، يعني قنابل. لكن هناك في ذاك الجو بين الأزهار والنباتات والصخر الأبيض ونسيم أيار مثل نيروز. قالت سِتِّي مثل نيروز يعني عيد الربيع والورد والزهور عند البهائيين في حيفا، لا هم إسلام ولا مسيحيين ولا حتى يهود. ما دينهم إذن؟ هي لا تعرف وأنا لا أعرف سوى أن نيروز هو عيد الربيع وهواء الجبل ورائحة العشب وزهور البرية والألوان، مثل نيروز.

قالت سِتِّي:

- هناك، بعيد، على مد النظر حفاف البحر. شايفة الأزرق؟

نظرت مليا ولم أر الشط الأزرق، ولا بحر ولا نهر ولا سفينة. لكن سِتِّي قالت لي إن أخاها، هناك في حيفا، لديه مراكب وسفن ولنشات فيها بضائع، أغنى منّا، أغنى بكثير. لكن الحالة مستورة، حالتنا نحن، أما سيدي، فأغنى بكثير.

التفتت إلي:

- أكلت يا سِتِّي؟

نظرت إليها ونظرت إلي، وتبادلنا تلك النظرة، هي نظرة حب، ونظرة إعجاب وتدله شبيه بالعشق. كانت تقول: أنتِ روحي، وأنا أقول: أنتِ حياتي. وهذا فعلا ما كنا نحس. بالنسبة لها كنت أنا أكثر من طفلة وحفيدة، كنت حب الكبر وغرام الشيب، كما كانت تقول. كنت المتنفس لعواطف امرأة باتت أرملة وهي ما زالت في العشرين، والآن كبرت وصارت حجة وختيارة وعلى حافة قبرها، كما كانت تقول. أسمعها تقول حافة القبر فأكاد أجن لأن سِتِّي، بالنسبة لي، ليست ختيارة على الإطلاق. كانت ترفع شوالات الطحين والسكر دون مساعدة ودون عناء. وتصعد على سلم الحاكورة لتقطف الليمون والخشخاش، فتصيح وداد، يعني أمي:

- يا أمي ناوية على وقعة؟ تكسري حوضك تكسري رجلك وأنا أبلش فيك وأتورط.

فتخفض عينيها عن الشجرة، وتنظر إليّ وتغمزني، وتقول لي:

- شايفة أمك؟ مش خايفة علي، خايفة تتورط وتبلش فيّ. إنسي الموضوع.

ولا أنسى لأني أحتار بين الاثنتين. فأنا بالفعل أخاف عليها مثل أمي وداد، لكني أيضا أرى من حقها صعود السلم وقطف الليمون ورفع السحاحير على السدة ثم المشاوير الطويلة لزيارة المقبرة الشرقية والغربية، حيث أموات من سبقونا وزيارة الأقصى حين نزور خالي أميناً ثم التسكع في حارات وأسواق القدس. سِتِّي قوية. سِتِّي ذكية. سِتِّي نشيطة. أقوى من أمي بما لا يقاس، وأحلى من أمي بما لا يقاس، وأعذب وأرق، فيها عواطف. لكن عواطفها نحوي غير عن وداد، يعني ابنتها. وحين تغار أمي مني، تقول سِتِّي بلا ابتسام، وكأنها تؤكد حقها في أن تحب حفيدتها أكثر: ما أعز من الولد إلا ولد الولد. فتسكت وداد على مضض، وأبتسم أنا ؛لأن سِتِّي تغمزني وتهمس لي بصوت مسروق: أنت روحي. وأنا أقول: أنت حياتي.

الصفحات