أنت هنا

قراءة كتاب حبي الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبي الأول

حبي الأول

كتاب " حبي الأول " ، تأليف سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب : 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 10

5

ناداني الدهان:

- يا ست نضال، هذي اللوحة لازم تنزل.

دخلت الغرفة، غرفة خالي، خالي أمين المثقف، ابن الأحزاب، شرّاء الكتب والمجلات، فوجدت الأرض مليئة بالكتب والجرائد والمنشورات، وقصاصات من تلك الصحف القديمة: صور ورسوم ومانشيتات. "الانجليز ينوون الرحيل،" "لجان التحقيق فشلت وخابت،" "المفتي صرح من منفاه،" "والنشاشيبي ينفي التصريح."

قال الدَّهان وهو يرمقني بملل وفضول وبيده مجرود ضخم وعلبة معجون:

- يا ست نضال، هذي اللوحة، وهذي الكتب وهذي الأوراق، بدنا نشتغل!

ناديت شابا كان يقتلع الأعشاب من ساحة الدار، وقلت له: تعال احمل. لكني حملت تلك اللوحة، وذهبت بها إلى العِلِّيَّة حيث أنام وأقوم وأعيش الزمن من الأول، من خلال أوراق ورسائل ومقالات لم تنشر بعد.

وضعت اللوحة فوق صناديق الأوراق والصور والتذكارات، وجلست على السرير ثم تمددت، وسرحت بنظري في اللوحة، لوحة عيبال، وحرش الصنوبر في القمة فوق المحاجر وشيخ العماد. حين رسمت تلك اللوحة كنت في الحادية عشرة، وقد أصبحت فنانة، بل هاوية، برعم هاوية، أرسم لوحات بالطبشور وألوان الماء. لم أكن بعد قد تمرست بخلط الألوان. لم أكن انتقلت لدهان الزيت. تلك اللوحة، لوحة عيبال، كانت مرسومة بألوان الماء، وكانت ألوانها قد بدأت تخبو وتغيم، وكأن الزمن فعل باللوحة ما حل بنا، بدأنا نخبو والثورة تغيم. لكن هل غامت أو غابت؟ مثل الساعة، تبدأ من فوق، ثم تنزل تحت، وتعود ثانية للأعلى، وبلا توقيت!

خالي أمين رآني أرسم صورة فنان من مجلة، محسن سرحان. كنت أحب محسن سرحان! كنت مراهقة صغيرة أحلم بشاب جميل لطيف، يكبر ويصير رجلا قويا يحميني، يأخذ بيدي ويقبلني ويحملني ويطير فوق عيبال وقمة جرزيم، ويقول لي إني حلوة وإني بريئة، وإنه جاء ليخلصني من ذاك الجو، جو الخوف والتوتر، ودموع سِتِّي.

نظر إلى الصورة المنقولة وضحك علي، وقال مقهقها: محسن سرحان! ما زلت ترسمين محسن سرحان! أهذا ذوقك؟ محسن سرحان؟

كنت قد رسمت محسن سرحان عدة مرات، في كل مرة أنقل صورته مكبرة أكبر وأكبر، وفي كل مرة أخطئ في نقل عينيه أكثر وأكثر. عين واضحة صحيحة، وعين عوراء أو حولاء أو مطفيّة، بؤبؤها يخرج عن المركز فتبدو حولاء أو عوراء أو مطفيّة. لكني واظبت على نقله حتى أحظى بمحسن سرحان، الرجل الشهم المخلّص، حبّيب النساء.

خالي المثقف لم يقنع بمراوغتي. قال الأحلام والأفلام ونقل الصور من المجلات شيء لا يغني ولا يثمر. هل هذا فن؟ هل هذا حياة؟ هل هذا جمال وعواطف؟ الفن عمق وتجلي. محسن سرحان؟ أين حياتك؟ أين الواقع؟ أين التاريخ؟ أين الرؤيا؟

لم أفهم ما قصده بالتاريخ وبالرؤيا، لكني فهمت أن ما أقوم بنقله ليس حقيقة وليس الواقع، وأهم من ذلك ليس جميلا، لأن خالي فسر الأمور بشكل ساخر جعلني أقرف من رسمي ومحسن سرحان. قال بجدية وتفلسف: كأنك تحلمين كما نحلم بشيخ يخلصنا من الواقع ومن هذا الهمّ. فبدأت أتخيل محسن سرحان هو ذاك الشيخ، بلفة بيضاء وجبة طويلة ولحية كثة وصوت مليء بالتهديد.

توقفت عن الرسم عدة أسابيع حتى ضبطني، وقال بعتاب: يا محسن سرحان يا إمَّا بلا؟! أهذا هو الفن؟ وأعطاني كتبا لرسامين رسموا الواقع، ورسموا الأفكار، ورسموا خيالات عن الجنة أو جهنم، رسموا الموناليزا وأفروديت وكيوبيد الحب ويسوع المسيح. وعشت مع دافنتشي ورفاييللو وبوتتشللي وسيزان وفان خوخ وبيكاسو. بدأت أفهم معنى الرسم. بدأت أفهم أن الرسم يعني الواقع، واقع معجون بالرؤيا وحركة تاريخ فغاب عن عقلي وخيالي محسن سرحان كما غاب الشيخ بلفّته بلفتة تاريخ.

بدأت أرسم من الواقع، سِتِّي، أمي، شجر الخشخاش والياسمينة، وقطة بيضاء تنام بهدوء تحت الشجرة، ثم عيبال، وحرش الصنوبر في القمة، حيث التقينا أنا وسِتِّي بخالي ومجموعة من الثوّار، كما التقيت بحبي الأول، الولد الشاب ابن القرية بقمة عيبال. في ذاك الوقت، كانت الثورة قد هدأت، أو انهدت من داخلها، ومن الخارج. بدأت حلوة، قوية، نقية ثم اندثرت. وفي ذاك الوقت، حين كانت ما زالت نقية، التقينا في الحرش، فوق القمة، خالي ومجموعة من الثوّار، وحبي الأول.

أراها الآن فوق الصناديق المحشوة بأوراق العائلة والرسائل، وقصائد خالي المنسية، فتمثل لي زمنا ولّى وما زال يدور عقرب ساعة، يبدأ من فوق وينزل لتحت ثم يرتفع إلى القمة، إلى رقم 12، وأنا أنتظر وأتأمل وخيالي يدور وذاكرتي تجعلني أغوص وأتوغل في ذاك الحرش، قبل أن أوغل في الذكرى، والحب البعيد، حبي لأول.

الصفحات