أنت هنا

قراءة كتاب حبي الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبي الأول

حبي الأول

كتاب " حبي الأول " ، تأليف سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب : 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 9

ركض الأولاد أمامنا نحو تلك الدار، ليبشروا أم نايف بمقدمنا، وليثبتوا معرفتهم الأكيدة بأم نايف ودارها المزروعة بين الزيتون.

خرجت أم نايف لتعرف من جاء لزيارتها. كانت مشمرة الذراعين وتضع طرف ثوبها في زنار عريض من الصايا ومن تحت الثوب، بدا لباسها الطويل حتى القدمين مثل السروال، أبيض كامد بلون مغبر. أمّا رأسها فظهر مفرعا من دون غطاء، فبدت جدائلها النحيلة سوداء بلا شيب رغم كبرها، فقد كانت بعمر سِتِّي أو أكبر، وفي فمها بعض الأسنان فيها فجوات وتعاريج وعلى ذقنها وشم أخضر.

وضعت يدها فوق عينيها من ضوء الشمس لترى من نحن، وكان الأولاد حولها ينتظرون قدومنا بفارغ الصبر. هي تريد أن تعرف من القادم لزيارتها، وهم أيضا. وحين رأتنا وعرفت من نحن صفقت بيديها، ووضعت يدها فوق فمها وأطلقت زغرودة خافتة، قصيرة جدا، لتظهر فرحها ودهشتها وكتعبير أكيد عن شرف عظيم ألم بها، فها هي سيدة مدنية، بنت الأصول، تأتي إليها لزيارتها، وهي القروية الفقيرة، بياعة اللبن والفريكة، فهل هناك شرف أعظم؟

في تلك الأثناء، أحسست بيد تمتد إلى ثوبي وتشده. ضممت ثوبي إلى ركبتي بسرعة وإجفال، والتفت لأرى ما الأمر، فرأيت الطفلة الصغيرة، من مدت لسانها تسخر مني، صغيرة جدا، أصغر مني، وأقصر بكثير، شعرها منبوش بلا تمشيط، ووجهها كالح من غير لون، وإن كان أميل إلى السمرة، ثوبها مشرشر بلا أزرار، لونه توتي بزهر أصفر، وبدون حذاء في قدميها. التقت أعيننا بنظرة جامدة حذرة، أنا خائفة جفلى، وهي بلا خوف ولا تعبير في عينيها، ويدها ما زالت تمسك بثوبي وتشده. لهذا أحسست براحة غريبة وأنا أدخل دار أم نايف، لأختبئ من الطفلة الصغيرة وجوقة أولاد.

دار أم نايف غرفة واسعة معتمة فيها طراريح على الأرض، وزير ماء في زاوية أقرب ما تكون إلى مطبخ، وباب يؤدي إلى حظيرة فيها غنمات ودجاجات وأرانب.

جلسنا على الأرض فوق الطراريح، وشربنا الشاي بالميرمية، وبدأ الهمس بين الاثنتين وأنا أسمع وأحاول أن أفهم وأتابع. لكن أم نايف قالت لي إن العنزة، واسمها وضحة، قد ولدت بنتا صغيرة بحجم القطة، فهل أحب أن أراها؟ التصقت بسِتِّي وهززت رأسي بخجل وفضول، لأني أريد أن أتسمع على ما يقال. لكن أم نايف ألحت أن أخرج لأشاهد الأولاد وهم يلعبون "دقة واجري" فلم أتجاوب والتصقت أكثر بحضن سِتِّي.

قالت سِتِّي: طيب خليها مش مشكل. فبدأت أم نايف تتحدث بلغة الألغاز. جاءوا، ذهبوا، طلعوا، نزلوا، أكلوا، شربوا، وعملوا العرس بين الزيتون وأكوام القمح، حرقوا القمحات.

سألتُ سِتِّي بدهشة وفضول:

- مين يا سِتِّي حرق القمحات؟

لكزتني سِتِّي كي أسكت، وقالت لأم نايف باهتمام: آ، وبعدين؟ وأكملت أم نايف حديثا لم أفهم منه إلا شذرات.

كنا ما زلنا نشرب الشاي حين تدفقت النساء على أم نايف. هذه تقول أنها جاءت لاقتراض بيضتين، وأخرى جاءت لشراء لبن، وثالثة جاءت لأنها مشتاقة لأم نايف وتريد الاطمئنان على أخبارها، ورابعة وخامسة حتى امتلأت الغرفة والطراريح بنساء من كل الأعمار. وكلما ازداد العدد، ازددت التصاقا بحضن سِتِّي، وسِتِّي بدت كمديرة مدرستنا الابتدائية، لأنها تجيد الحديث بلغة القرآن وأمثال وتعليقات تجعلها تبدو كمديرة مدرسة بين النساء القرويات. لكن لم تمض سوى دقائق حتى انقلبت الآية واختلف الوضع. إذ أخذ السباق على البطولة يحمى ويشتد. هذه تقول خبأت البارودة والديناميت تحت الزبل، وثانية تقول في فرش العجين، وثالثة قالت إنها وضعت المسدس في جونة اللبن، وحين مر الانجليزي انشقت الأرض عن الفدائي وسحب المسدس من تحت اللبن وقتل الضابط وأعاد المسدس لموضعه فأخذت تنادي: لبن يا لبن، مين بِدُه لبن؟

أخيرا قالت كبيرتهن، وهي كما تبدو ذات صول وجول في القرية ومع الثوّار:

- يا أم وحيد، ابنك ما شا الله شيخ الشباب، والله الناس يحكوا عنه ويقولوا بطل، لكن شفناه؟ لأ ما شفناه. مرات يقولوا اشتبك مع الانجليز، ومرات يقولوا قطع الطريق وقتل عشرة ويمكن عشرين، الناس يقولوا وإحنا نسمع. لكن شفناه؟ لأ ما شفناه. لكن تكرمي، لك عندي أسأل وأدوِّر حتى ألاقيه. مليح يا حجة؟

هزت سِتِّي رأسها بيأس وقنوط. وفي تلك اللحظة، بدت أبعد ما تكون عن مديرة مدرسة، أو حتى معلمة مستورة وعلى قد الحال.

الصفحات