أنت هنا

قراءة كتاب البقاء على قيد الكتابة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البقاء على قيد الكتابة

البقاء على قيد الكتابة

كتاب " البقاء على قيد الكتابة " ، تأليف عبد العزيز محمد الخاطر ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

من نقد السلطة إلى شيطنتها تجليات اليأس العربي من الإصلاح

تتفتق الذهنية العربية وباستمرار عن مظاهر تدل على مدى وعمق الأزمة التي يعانيها المجتمع العربي، وهي أزمة في جوهرها هيكلية، حيث لا توافق ولا رؤية لإمكانية انتقال المأمول إلى الواقع، ولا توافق كذلك بين الأقوال والأعمال·

ففي حين يجري إطلاق العنان للفكر للتعبير عن ذاته، يجري تثبيت الواقع وشل إرادة الفعل اللازمة لتحقق طيف الأفكار، بحيث يبدو الانفصام واضحاً لكل ذي بصيره· فمثلاً يُطرح شعار النقد البناء كتوجه، ويُطالب به كممارسة، ولكنه لا يتحول إلى وسيلة فاعلة ذات تأثير، وإنما يتخذ شكلاً فوقياً، فتكون النتيجة انتقاله إلى مرحلة أخرى متقدمة بعض الشيء، وهي مرحلة جلد الذات، فيتكور المجتمع حول نفسه، فيصبح ذاته الضحية والجلاد، وربما ينتقل الوضع إلى ما هو أسوأ؛ كما نشهد في العديد من المناسبات، حيث الانتقال إلى مرحلة أكثر قتامة وسوداوية، تنبئ عن حالة من اليأس من إصلاح أمراض المجتمع وعوارض السلطة، وهي مرحلة الشيطنة، وهي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها الشتم أو حتى اللعن، والتي قد تتحول من الحالة الفردانية إلى الحالة العامة؛ كالانقضاض على التاريخ وتمزيق أوصاله، تراثاً كان أم مبادئ عامة؛ أم تقاليد ترسخت عبر السنين نهاية ربما بالعقائد والأديان· وهي عرض دال بلا شك على الثبات المذموم المنافي للفطرة السليمة·

لقد مرت الأمة عبر تاريخها بمحاولات عديدة انبرى لها العديد من أبنائها ومثقفيها، اتخذت من هذه الأنماط البكائية الثلاثة، ما بين النقد وجلد الذات والشتم، مرتكزاً أو محوراً ثابتاً، خاصة فيما يتعلق بإشكالية التراث والحداثه كجذر وانتهاءً بالسلطة كقمة لجبل الجليد الدال على أزمة تاريخ هذه الأمة وعدم سريانه، كما الحال لدى الغير من الأمم· فمنهم من رأى بالمزاوجة، ومنهم من رأى بتجزئة التراث وتبيين غثه من سمينه، وآخرون رأوا بالقطع مع الماضي وإعادته إلى المتاحف التاريخية للزيارة فقط، والاتعاظ بالماضي لا أكثر· وللحقيقة فإن أعلى درجات تناول هذا الموضوع يتصل بالسلطة بلا شك، فهي من امتلك وما يزال يملك زمام الأمور منذ فجر تاريخ هذه الأمة، وبالتالي أيّ شكل من أشكال هذه الأنماط البكائية التي أشرت إليها، هي في الأساس موجهة إلى السلطة بشكل غير مباشر، وإن كانت مواضيعها تحتمل أبعاداً أخرى داخل المجتمع وأوصاله، حيث الدم الذي يجري في هذه الأوصال، هو في الأساس مكوناً سلطوياً·

في المجتمعات الصحية يتحول النقد البناّء، عبر آليات معينة، إلى جزئيات مهمة وضرورية للإصلاح والتطوير عبر القنوات المتعددة القانونية المتاحة، بما فيها البرلمانات ومجالس الإصلاح وبناء الاستراتيجيات· فالأصل في النقد أن يكون ذا هدف وله قنوات، وليس حالة ضبابية تسير على غير هدى، فالمجتمع الذي لا يمتلك آليات استيعاب مظاهر وعوامل التغيير والتعبير عن الرأي، لا يستطيع بالتالي ادعاء الحرية والديمقراطية، فالخروجُ بالحرية من تعريفها العام -في مجتمعاتنا عبر التاريخ حيث توضع في مقابلة مع العبوديه إلى معان أخرى جديدة، تحتمل كل أبعاد الإنسانية والفردانية- أمرٌ مهم وضروري وملح للخروج من إشكالية الوصول بالحالة إلى مرحلة شيطنة السلطة وربما المجتمع، وبالتالي استباحة شتمهما وربما الخروج الدموي عليهما·

لقد استعاضت كثيرٌ من الأنظمة عن إيجاد الآليات المناسبة لتأكيد معنى الحرية هذا، بما توفره من وسائل تقنية جديدة في مجال الاتصال، عن طريق القنوات الفضائية والهواء المفتوح· وحيث إن الطبيعة العربية أساساً تعاني الكبت منذ قرون، فكان في مقدمة ما جرى ويجري تناوله وبتركيز مستهدف مكبوتات النفس العربية من جنس وسياسة ودين، وأينعت ثلاثية النقد وجلد الذات والشتم هذه فصولاً طويلة من ألفاظ وكلمات ومصطلحات، شكلت قواميس يتغذى منها مع الأسف الجيل الجديد· وفي الوقت نفسه، ترفعت السلطة عن ذلك، وادعت بأنها تسمح بالحرية وبكل أشكالها لمن هم دونها، بحيث لا يصل الأمر أفقيا إليها، وهذه بالذات صورة جديدة من صور الهجاء، وهو من أهم أغراض الشعر والأدب العربي، وإن كان بتقنية جديدة أكثر تشويقاً وألمع صورة، إن ضغط التحولات على جسد الأمة يجعل منها عرضة للتشويه، وليست صورة حقيقية لقضية التمدن والتقدم اللذين يشهدهما العالم، فاحتكاك كل ذلك الحديث بقديمها البالي، وفي مقدمته السلطة يخرج مسخاً مصاباً بجميع الأمراض النفسية والعقلية، ويجعل من قديمها جديداً في الشكل فقط، وليس المضمون أو المحتوى للخروج من حالة الشيطنة، التي تبيح المحرمات، إلى حالة الأنسنة التي ترقى بالإنسان كأعظم المكرمين في الكون· لابد من إعادة النظر في جميع ما وضع فوق النقد، بشراً كان أم فكراً، وعلينا كذلك الارتقاء بمفهوم النقد وإخراجه من مفهومه الضيق -الذي نعهده- إلى اعتباره إصلاحاً وكشفاً وإضافة، وعدم اعتباره بحثاً عن العيوب، بقدر ما يكون فتحاً لآفاق ورؤى جديدة· لقد آن لثلاثية البكاء العربية -من نقد وجلد للذات وشتم- المرتكزة على مفهوم الشيطنة، أن تختفي بشكلها المعهود، ويصعد بصعودها المجتمع العربي، بما فيه سلطته، إلى الحالة الإنسانية التي لا تضع أحداً فوق النقد والمساءلة تاريخاً كان أم بشراً·

الصفحات