أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
(1) بزوغ
 
قيّضت لي خارطة الحياة والأحياء أن أطلّ على الدنيا قبل بزوغ عام 1953م بستة أيام فقط ! لا أدري لماذا لم أنتظر انقضاء هذه الأيام الستة لأكون من مواليد العام الجديد لا العام المنصرم ؟!··· هكذا يحاصرني السؤال الاستنكاري، وينمو في داخلي لون من الرفض لأنْ أكون من مواليد النهايات والذُبالات المتبقية، لا مواليد الطلائع والبدايات· وظل هذا الشعور بالخذلان يلازمني إلى أن انتقلتُ للعيش في انجلترا طوال فترة بعثتي الدراسية للدكتوراه· وهناك اكتشفتُ أن الخامس والعشرين من ديسمبر هو اليوم الأهم والأشهر في العام كله· ففيه ولد نبي السلام والرحمة المسيح عليه السلام، وفيه تقام أعياد الكريسماس العالمية بظلالها الدينية والاجتماعية المبهجة، وعلمتُ أن كل من يولد في هذا اليوم المجيد - على حدّ زعمهم - ما هو إلاّ مسيح صغير يأتي ليمسح آلام البشرية ويلوّن الحياة بالسلام والرحمة ! وأمام هذا الانطباع الجديد ليوم الخامس والعشرين من ديسمبر، بل أمام علامات الدهشة والاغتباط التي أراها على الوجوه حين أُسألُ عن تاريخ ميلادي، بدأ شعوري إزاء هذا اليوم يتبدّل ويكتسب في نظري شيئاً من التميّز واالخصوصية· بيد أن الشعور بإضافة سنة كاملة إلى عمري - لا ستة أيام فقط - حين أُحسَب من مواليد العام المنصرم لا الجديد، يظل مصدراً للتململ والضيق لا ينتهي !
 
ورغم ذلك فميلادي بتاريخ 25/12/1952م هو توثيق صحيح ودقيق· ومما يعزز هذه الدقة ما قرأته على ظهر صورة فوتوغرافية لي حين كنتُ في حوالي الثالثة من العمر، فقد تم تسجيل تاريخ التقاط الصورة ثم تحديد عمر صاحبة الصورة باليوم والشهر والسنة، مما يدلل على الاستناد إلى مرجع موثّق هو شهادة الميلاد· ولعله من فضلة القول التنويه إلى أن اعتماد تسجيل المواليد كان قد بدأ في الكويت مطلع الخمسينات من القرن العشرين، بينما عانى مواليد عقد الأربعينات ومن سبقهم من صعوبة تحديد تواريخ ميلادهم بسبب غياب مثل هذه الوثائق·
 
ولعل هذه التقدمة تبقى بلا ضرورة، لو لم تأتِ كإشارة مهمة إلى فترة تاريخية فاصلة في عمر مجتمع مثل الكويت كان ينقذف بقوة نحو التغيّر والحراك الثقافي والاجتماعي منذ مطلع الخمسينات خاصةً· ففي هذا العقد بالذات حدثت أكبر حركة نزوح سكاني من مدينة الكويت - التي أضحت مركزاً مالياً وتجارياً - نحو الضواحي المحيطة، لتتواكب مع ازدهار عمراني لافت· ولعل معظم أبناء جيلي من مواليد الخمسينات لا يكادون يتذكرون شكل المدينة القديمة، أو ملامح البيوت التي ولدوا فيها ثم غادروها أطفالاً صغاراً بذاكرة غضة مموّهة لا تكاد تعي ما حولها·
 
بيد أن الذاكرة تبدأ بالتيقّظ حين تتزامن أعمارنا - ونحن ندرج نحو الخامسة والسادسة من العمر - مع حركة التعليم الطليعية التي كانت قد بدأت حديثةً ومتمكّنة ونحن ندخل صفوفنا الإبتدائية· ويأتي انبهارنا الأول أمام معمارية مدارسنا الحديثة البناء، والتي كانت آية من آيات الفن المعماري، بأبهائها الفسيحة، وأقواسها ومشربياتها، وأرضياتها الرخامية الصقيلة، وأفيائها الظليلة، وحدائقها الغنّاء· ناهيك عما تنفحه أجواؤها من عبق يُشعر بالرفاه والرعاية والأنس والدعة· لا تدري من أين يأتي الشعور باللطف والطمأنينة ؟! أهو الانتماء إلى مؤسسة كانت تتبنّانا من الألف إلى الياء، حين تبدأ الرعاية المجانية من ملابس الزي المدرسي والوجبة الغذائية الساخنة، مروراً بخدمة التوصيل اليومي بالباص ذهاباً وإياباً، وانتهاءً بتوفير الكتاب والدفتر وقلم الرصاص والمسطرة ! أم هو جو الدرس ووجوه مدرساتنا حيث تمتزج الرصانة باللهو والحزم بمتعة الانفلات وبراءته! أم تراها نفحات العوالم المعرفية التي تتفتّح أمام دهشة الطفولة وجدّة خبرتها بالحياة ومشاهدها ! يقيناً أننا كنّا الجيل الأكثر انتفاعاً بثمار النهضة التعليمية والاجتماعية الحديثة، وربما أيضاً الجيل الذي عُقدتْ عليه الكثير من الآمال في تحقيق خطط التنمية البشرية الطامحة التي كانت تُرسى أسسها حينذاك· لقد كانت سنوات عقدي الخمسينات والستينات بكل المقاييس سنوات وفرة اقتصادية، وسنوات بناء مطّرد للمؤسسات التعليمية والخَدَمية، وسنوات للتحوّل والتحديث، وسنوات للأحلام والطموحات·
 
وما كان الجو الاجتماعي خاصةً بمعزل عن هذه التطورات العامة· فعلى صعيد الحياة الاجتماعية كان هناك لون من المرونة في تقبّل مستجدات المرحلة، وروح أقرب إلى التلاؤم والمهادنة منها إلى التحفظ والنفور· وإذا كان هذا يصدق بصورة شبه عامة على البالغين من فئات المجتمع المختلفة، فلعله يصدق بصورة مطلقة علينا نحن الأطفال حينذاك· فقد ولدنا لنجد أنفسنا في مدينة حديثة، نعيش حياةً عصرية، ونتلقّى تعليماً حديثاً، وننعم بأدوات الحضارة المتاحة كالكهرباء والتلفزيون والسيارة والهاتف··· إلخ· لذلك لم تشكل لنا النقلة الحضارية أزمة أو إشكالية· وحين يتحدث آباؤنا عن مهنة الغوص على اللؤلؤ، وبيوت الطين، وجلسة الكتاتيب، وشظف العيش قبل عهد النفط، يلذُّ لنا الاستماع والإنصات، تماماً كما يلذّ لأي طفل الاستماع إلى القصص التراثية والاسطورية التي توقظ المخيلة وتغذّي الفضول وتلهب مشاعر الانتماء والتعاطف·

الصفحات