أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
(2) أقفاص وأجنحة
 
تظل مباهج الروح ومراراتها المبكرة تسبح على ضفة نائية، متلفّعة بسريّتها ودهاليزها، منكفئة على العطش والأشواق الغامضة، والسراب القلبي· أما الضفة الدانية، فلها ذلك الوجه البارد، والعينان الهاربتان، والصوت الباهت، والظل المموّه !
 
أي عذاب أن تظل تسير على هذا الخط المرهف، الجارح كحدّ السكين، فلا أنتَ تهبط على الضفة النائية فتتضوّع وتنمو لك الأجنحة، ولا أنت تسقط على الضفة الدانية فتضيع كسقط المتاع مع البسطاء والعوام والمنسيين الذين يزحمون العالم !
 
ثم مَنْ يستطيع أن يراهن على الطيران والأجنحة، دون أن يكابد أوجاع التعلّم وإباء المرتفعات، ومخاوف الأمطار والريح ؟!
 
كان لزاماً على النفس لكي تدخل مدرسة الطيران أن تضخّ بضع شرارات في الصوت الباهت، وترشّ الظلَّ المموّه ببعض الألوان· الصوت والظل صاريتان لخيمة الذات، وبهما تنهض وترفّ أجنحتها، ويتفتّق بياضها وامتدادها·
 
لا غرو وقتئذ أن تتابعت نصوص شعر بدائية طالبة الانعتاق من عتمة الجوارير وسجن الأوراق الهزيلة· ولا غرو أن زامنتها محاولات أولى في كتابة المقال والدراسة الأدبية· كانت هذه الأفراخ تتعلم الطيران قبيل مغادرتي لمقاعد الجامعة، وكانت تتوق لرؤية ضوء النهار متمرّدة على هشاشتها وزغبها الغضّ· ورغم ما في المحاولات الأولى من بدائية وبساطة، تظل بلا شك تحمل سمات نفس وفكر تواقّين إلى تسجيل نقطة للبدء، وتشييد قاعدة للطيران، وقبلهما إضمار نية لخرق اعتيادية الحياة من حولي، والتمرد على بلاهتها وثباتها·
 
في هذه المرحلة تأتي رابطة الأدباء في الكويت لتهبني الثقة والدعم والاحتواء· ولعل الحديث يطول حين التعريج على دور رابطة الأدباء وأثرها في جيلي وفي الجيل السابق علينا· فرابطة الأدباء التي تأسست عام 1966م، كانت قد أوجدت لها قاعدة طلائعية من المخضرمين والشباب أواخر السبعينات وأوائل ثمانينات القرن العشرين، وهي المرحلة المهمة التي عاصرتها في بداياتي حين كنت طالبة في جامعة الكويت، أو بعد تخرجي بقليل· ورغم تقاطع الأجيال في أبناء الرابطة وأعضائها، إلا أن الجو العام في منتدياتها ومجلتها البيان كان جواً منفتحاً وثرياً ومتعدد المشارب، بل ومرحباً بحفاوة بما تقدمه محاولات الجيل الأحدث عهداً· ويحضرني في هذا المقام ما اتسم به رموز الرابطة ومؤسسوها حينذاك من تفهّم واستيعاب للتجارب الغضّة، وما اتصفوا به من مرونة لافتة، وتواضع جمّ، واستعداد للحوار رغم فارق الأجيال والأذواق، والأهم من ذلك ما أظهروه من حنو وحدب إزاء خطواتنا المتلكئة· كنتُ وأنا الطالبة حديثة التخرج، أجادل عبدالرزاق البصير وأحاوره حول موضوع وحدة الأدب العربي الذي طرحه فوق صفحات مجلة البيان، وذلك في عدد سبتمبر 1976م· ورغم ما في المجادلة من حماس الشباب وفورته وتباهيه، وما في الحوار من مناكفة ومشاكسة وأسئلة مدببة، إلاّ أن الرجل بكل هيبته ومكانته كان يتلقى ذلك بإصغاء جميل، وابتسامة سخية لا تنتهي· ويأتي عبدالله زكريا الأنصاري ليمثل النموذج الأمثل للأريحية والمواكبة، حين لم يتوانَ عن الكتابة إلى تلك الفتاة الغرّة طرية العود (التي كنتُها حينذاك)، ليذكّرها بشروط الإبداع وأولوياته، وأهمية الصدق في الطرح، والإيمان بالذات· أما خليفة الوقيان فلعله (الفدائي) الأول الذي تجشم عناء النظر في نصوصي الأولى، بكل هِناتها وهشاشة ريشها، ولكن يبدو أن صبره وعنايته كانا أكبر من مساحة أملي وتوقعاتي· في رحاب هذه الروح التي رانت على مؤسسة الرابطة كنّا ننمو ونتفتّح، وتنمو معنا الطيور والكلمات، مشمولين بنظرات الحدب ترمقنا عن بُعد، وتوسع لنا منصات الظهور شيئاً فشيئاً دون إفراط أو تفريط·
 
وتأتي مجلة البيان لتكون الدفتر الأول لمحاولاتي البازغة في الشعر، والصفحة التجريبية لكتاباتي في الظواهر الشعرية· على نطاق الشعر كانت تلك مرحلة العصفور الأسود، والعنقاء، وعندما ينتصر الحزن، والبحث عن ملامح في مدينة الكرنفال، وأشلاء عام وغربتي، وغيرها من النصوص التي سقطت من الذاكرة وبَهتتْ مع مرور السنوات· ولكنها تبقى علامات مميزة لمرحلة اكتشاف الذات، وتحسسها المبكر للارتهان والنفي، واغتراب الروح، وانكسارات الصبا· وما كانت تلك النصوص البازغة مجرد مسامرة لحزن غامض، أو تصوير لكآبات متلكئة، بقدر ما كانت تختزن في تضاعيفها رغبة حارة في التوحّد بالنموذج - المثال في الإنسان والظواهر الحياتية· النموذج الأقرب إلى النقاء والرقي والرهافة، مع نفور جامح من الاعتيادية والبلاهة والفجاجة والأرواح المعتمة· ولما كان ذلك عسير التحقق في عالم بهذا الضيق والفقر، فلم يكن هناك بد من إطلاق تلك النفثات الملتاعة اليائسة، السادرة في همسها وخفوتها حيناً، والمضمّخة بغنائية مسرفة أحياناً أخرى· وتظهر ثنائية الحب المفقود والزمن المنسكب في العراء منذ هذه المرحلة المبكرة، قبل أن تجد لها مجارٍ أكثر عمقاً وتجسيداً فيما تلا من مراحل· رافق ذلك، التعلّق برموز الطيور والأجنحة، ربما لتخفف من جهامة العالم الذي بلا حب، ومن صفاقة زمن بلا نوعية، ولتَشي أيضاً بالتلازم بين الإحساس بالضعف والهشاشة والإرتهان من جهة، والحُلم بالانعتاق والخلاص من جهة أخرى·
 
أما الذاتية التي تعلن عن نفسها في مجمل نصوص المرحلة الأولى، فلعلها سمة عامة في الشعر النسوي لدى شاعرات جيلي (غنيمة زيد الحرب وجنة القريني)· والسِمة العامة عادة تأتي إفرازاً طبيعياً لملامح المرحلة التاريخية وظلالها المجتمعية والثقافية· والذاتية بما تعنيه من إنكفاء وسفر نحو الذات، تكاد تكون ردة فعل طبيعية إزاء وضع المرأة الشاعرة ، كظاهرة ثقافية خضعت للكثير من الإلغاء والتحجيم على مدى العصور والحقب· ناهيك عما يحاصر قدراتها الإبداعية وقواها النفسية من تابوهات ومحرمات وخطوط حمراء، تصبّ أحياناً في مجرى العادات والتقاليد، وتصبّ أحياناً أخرى في أنساق ثقافية وقوالب حددّت مساحة القول والشعور في الشعر النسوي، وروّضته على مدى الحقب ليكون شعراً طيّعاً وخادماً أميناً للنسق الثقافي المرغوب أو المسموح به·

الصفحات