أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7
إن التغيّرات الحضارية التي طرأت على مجتمعنا منذ نصف قرن كانت أقرب إلى الحضارة المادية القشرية أكثر من أي شيء آخر· وهذا اللون من التوجه السطحي عادة ما يكرّس الإزدواجية في الفكر والسلوك، ويخلق جيلاً - من النساء خاصة - مسكوناً بالخيبات والأحلام المجهضة· إذ رغم ما أحدثته هذه الحضارة من تغيرات ظاهرية، وما استحدثته من خطط التنمية، وأحلام النهوض بالإنسان، ظل الوضع بالنسبة للمرأة يراوح بين التقدمية والتقليدية، ويتذبذب بين التمسّح ببهرج التحضر وبين الانزلاق نحو أقبية الانغلاق، والوصاية، والقهر المقنّع· ويمكن ملاحظة هذا التذبذب والتخبّط بين الأحلام التنموية من جهة، وبين ميول التحجيم والإلغاء من جهة أخرى، ليس على مستوى الفكر والسلوك الإجتماعي فقط، وإنما على المستوى السياسي والمؤسساتي أيضاً· فلا غرو إذن ونحن بنات هذه المرحلة المتذبذبة، أن تأتي الذاتية بما فيها من اجترار لآلام الذات وأمانيها الهاربة، ردة فعل طبيعية إزاء الخلل في هذا المحيط الكوني، وما يشوّهه من فجوات وندوب·
 
ولعل التحسس لهذا الخلل الكوني في محيطي القريب تجسّد باكراً في ذلك الانشطار المؤلم بين الذات الكامنة والوجه الظاهر، حين اضطررتُ للتقنّع باسمٍ مستعار :(موناليزا) لفترة وجيزة· كان ذلك هو المخرج الوحيد من الحصار والعيون، منذ عادت أمي ذات يوم من زيارة لبيت الجيران، وكانت محتقنة الوجه ملتاعة الفؤاد، لأنها علمت من جارتنا أنهم قرؤوا اسمي في المجلة تحت مقطوعة من الشعر !·· شعر ؟!! كانت تنتفض تأثراً واستنكاراً للفعلة التي تقع في رأيها تحت خانة السبة والعيب ! كنتُ وأنا أستمع لوصلة التوبيخ والترهيب، والتحذير المدجّج بحراب الكلمات ودبابيسها، أشعر أنني أسوخ كحشرة هيّنة في رمال متحركة، وأنني أتنفّس بصعوبة، وأن أجمل ما فيّ لا يعدو في نظر أمي غير سفاسف وترّهات تؤذي أكثر مما تنفع ! وأنني أعود مترنّحة وطافية على موجة هائلة من الزَبَد لأرسو على خانة اللاشيئية وسقط المتاع مرة أخرى !
 
ولعلني منذ ذلك الموقف المبدئي المستنكر لتفتّحي على الشعر والكتابة، آثرتُ التكتّم والسرية، وتدثّرتُ بالانكفاء، مما قاد في النهاية إلى نفي الذات، والانسلاخ النفسي التام عن وسطي، الذي ضاعت فيه سبل التواصل وتقطّعت الأسباب !
 
كان لا بد من (موناليزا) لأَعبُر على جناحها نحو المنفى، وأرمم بعض شظاياي، وأتصالح مع واقعي· ولعل المعاناة الحقيقية في هذه المرحلة تجسّدت في عملية الانسلاخ المؤلم عن الهوية والذات، واللجوء إلى أصقاع غربة مضاعفة، على شواطئها يضيع ما تبقى من سمات وملامح لم تعُد لي وخاصتي ! تماماً كما لم يعُد لي اسم ووجه أُعرف به !! ورغم ما في (موناليزا) من رموز الغموض والحزن، لم أشعر بأنها استنسختني أو حلّت في كينونتي، إذ ظل الاسم يتمرّد على محوه وارتهانه لجسد أخرى ليست أنا !
 
وتأتي مرحلة الجهر بعد الهمس، أو البزوغ بعد الكمون متمثّلة بالوقوف على المنصة وأمام جمهور، لتكون اختباراً مبدئياً لصوتي الطالع من المحو والرماد· وما كان ذلك خروجاً فعلياً وتاماً من عنق زجاجة، بقدر ما كان مراوحة ومراوغة لواقع لم يفقد الكثير من تحفظه وزجره، ولكن كان بالإمكان تفاديه بالمراهنة على غفلته ونأيه ولامبالاته· كان ذلك في شهر فبراير من عام 1979م، وكانت المناسبة حفل تأبين الرائد المسرحي صقر الرشود إثر وفاته في حادث مأساوي· لم يكن الحفل هو حافز كتابة النص، بل كان الموت بحدّ ذاته والتساؤل حول عبثيته وعشوائية اختياره هو الذي خلق النص سلفاً· لم أكن قد التقيتُ صقر الرشود قط، وإنما عرفته كما يعرفه عامة الناس من لقطات التلفزة وحوارات التمثيل ومشاهده· وربما أحسستُ روحه القلقة المتمرّدة بادية آثارها في نماذجه المسرحية الرائدة، ورأيته طاقة مبدعة تتحفّز للتغيير والقفز فوق الاعتيادي والمكرر· ومن هنا يكتسب صقر الرشود بُعده الرمزي، ويتحوّل إلى موضوع شعريّ نموذجي في مقياس الفن، وإلى نموذج إنساني مغرٍ في مقياس التقدير والرؤية القلبية· إن سرّ الجاذبية في نص باقية عيناك في الفجر يكمن ربما في صدقه العاطفي، وانحيازه الواضح للتسامي والاستعلاء والكدح الإنساني الجميل، أكثر من أي شيء آخر· إذ يبقى هذا النص بغنائيته المسرفة، وروحه المنتحبة، وجِرْسه الصاخب نموذجاً ممثلاً لشعر البدايات ليس إلاّ· ولكن يبدو أن الأجواء في حفل التأبين ، الذي حضره خاصة المثقفين والمهتمين، كانت مهيّأة حينها لذلك الاستقبال الحار الذي قوبل فيه النص عند إلقائه على المنصة· وأكاد أجزم أن السعد كان حليفي في تلك الأمسية النادرة المبهرة، التي خرجتُ فيها من الرماد لأجرب الطيران أول مرة !
 
وتتوالى بركات الظهور الأول، أو الأهم إذا صحّ التعبير، حين تم اختياري من قِبَل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب للاشتراك في الأسبوع الثقافي الكويتي في المغرب ربيع 1979م· لم تكن تلك مجرد تجربة أولى على منصة أكثر أهمية، بقدر ما كانت محكّاً وتدريباً على نمط أرقى من المسؤولية· ولعل مفاجأة هذه المناسبة الثقافية - بالنسبة لي - كانت تكمن في تلك المفارقة المدهشة، حين وجدتُ نفسي أشارك منصة الإلقاء مع أحمد السقّاف بعراقته التقليدية ، وخالد سعود الزيد بتمكّنه الفني وجهوريته ! ولعل المجلس الوطني بتقديمه لهذا المزيج من الأجيال والاتجاهات، كان يمثّل الانفتاح، وسعة الأفق، تماماً كما كان يراهن على خياره الثقافي، وانحيازه لنبض الإنسان· وتتأكّد عناية المجلس الوطني ورعايته لجيلنا الجديد حينذاك، حين يعاود الكرة في اختياري بعد أقل من عام للمشاركة في الأسبوع الثقافي الكويتي في بغداد جنباً إلى جنب مع جنة القريني وعبدالله العتيبي وخالد سعود الزيد، لنمثل جميعاً تلك التشكيلة الملونة من الأصوات والتوجهات والتجارب الفنية· ولعله من فضلة القول التنويه إلى دور رابطة الأدباء في التزكية والترشيح لأمثلة هذه المشاركات في الخارج، الأمر الذي يُعدّ مؤشراً إيجابياً على روح التعاون والتنسيق التي سادت بين المؤسستين الثقافيتين، وسعيهما الدائب نحو التكامل في إبراز المشهد الثقافي المحلي في أفضل صوره·
 
ما كانت مرحلة البدايات تلك، مرحلة دفق نفسي وعاطفي فقط، بقدر ما كانت مرحلة دربة وتعلّم وحرص على التجويد· كنتُ وأنا أتعامل مع الخامة الشعرية في طور تشكيلها تنتابني حساسية مفرطة إزاء اللغة والعروض خاصةً· وكان أكثر ما يفزعني أن يُكتشف لديَّ خطأ في قواعد اللغة أو كسر في موسيقى العروض· ورغم ما اكتسبته من أذن موسيقية فطرية تقود إلى انسيابية تلقائية حين الكتابة، ألا أن الوسواس قد يبلغ في نفسي حداً يضطرني معه إلى تقطيع النص تقطيعاً عروضياً شطراً شطراً وتفعيلة تفعيلة، لأطمئن إلى سلامة البنيان الموسيقي !

الصفحات