أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
ومن هنا كان هناك خط فاصل رهيف بين جيلنا وجيل آبائنا· هو مجرد خط رهيف وليس حاجزاً كؤداً· لأنهم وبفضل حسّ من المرونة والمهادنة كانوا يروننا أبناء زماننا ونتاج عصرنا، وكانوا يُقرّون لنا ما لم يُتح لهم· ففي حين كُنّا نحن نتلقّى تعليماً عصرياً مميزاً، كانت أمهاتنا أميّات لا يُحسنّ حتى القراءة والكتابة، وفي حين كنّا نرتدي الملابس العصرية وننطلق متصالحات مع مظهرنا الخارجي ووجوهنا السافرة المتطلّعة، ظلّتْ أمهاتنا متدثّرات بالعباءة والبوشية ( غطاء أسود شفّاف للوجه) حتى آخر حياتهن·
 
ورغم التغيرات الاجتماعية في السلوك والعلاقات والمظاهر، يظل لون من الاعتدال والوسطية يحكم الجو الاجتماعي عامةً، وتظل أنماط من التقاليد والعادات غائرة الجذور وباقية رغم كل شيء، لتعطي هذا المجتمع هويته وسمته·
 
ما كان ذلك غير توطئة مبدئية لعلها تصلح خلفية مناسبة للانطلاق من العام إلى الخاص، أو من الآخر المنكشف إلى الذات المستسرّة المتكتّمة، التي تحاول ما استطاعت أن تترائى من خلال الثقوب والفجوات· وها أراني وأنا بصدد محاولة الكتابة عن تجربتي الشعرية أنني إزاء امتحان عسير ولا شك· فأية طاقة يحتاجها الكاتب حينئذ؟!·· أية شجاعة ؟!
 
بل أية قدرة تلك التي تطمح إلى صياغة الإنسان وانتهائه إلى نَسَق نفسي وروحي على شيء من التلاؤم، بعد طول افتراق بين ذاته الكامنة وذاته الظاهرة ؟! ذاته الكامنة التي تلوذ بالشعر، وذاته الظاهرة المتدثّرة بالرصانة، واللياقات، والأقنعة اليومية·
 
مَنْ يستطيع أن يجتاز هذا البرزخ ليوحد بين العري الباهر، وبين الإتكيت والملابس الرسمية ؟! أو بين البريّة المنفلتة، وبين أضواء النيون والصالات المستريحة ؟!
 
مَنْ يستطيع أن يفعل ذلك دون أن يسقط في محرقة الروح ؟!!
 
ليس هناك من طاقة يمكن أن تصنع للإنسان الاكتمال والنسق، والكتابة عن التجربة الشعرية مهما بلغت درجة حميميتها وصدقها، لن تلامس غير الحافات والحدود، وسوف تلهث خيولها دون القلاع المتأبّية والنوافذ المسدلة، التي تظل خيالاً وغباراً، ومطامحَ، وغاياتِ شوق·
 
هذا التأرجح بين الكمون والظهور، والتوحد والانكشاف، ما كان جدلية نفسية ومقصلة وجودية فقط، بقدر ما يأتي ثمرة من ثمار التنشئة، ولوناً من ألوان الطيف لتربية بيتية ومجتمعية تميل إلى رسم حدود الشخصيات وتسييجها بالتحفّظ أو الرصانة أو الاكتفاء أو اللامبالاة· وأمام تلك المسارب المغلقة والأبواب التي أضاعت مفاتيحها، تتقلص مساحات التعبير والبوح والمكاشفة، وتنكمش الذات كقوقعة ملقاة على ساحل مهجور·
 
ولعل الصراع الخفي بين الذات الكامنة والذات الظاهرة كان قد بدأ منذ الإطلالة الأولى على المدرسة، حين يدعونا عالم آخر : درس التعبير، ودرس الرسم، وهناك أناشيد ونصوص شعر تبوح بأسرارها، وهناك موسيقى وآلات عزف، وهناك مسرح كأنه عريشة من عرائش الجنة نقفز في أفيائها بالشرائط والأوراق الملونة، متقمصين الأزهار والعصافير· عالم يضجّ بالتعبير عن الحياة والبوح بأبجديتها الأولى·
 
وعلى قدر ما كانت المدرسة سخيّة بروحها المفعمة بالحياة، كانت كذلك سخيّة بأفيائها ومشاهدها ومنعطفاتها الظليلة· لم أكن قد رأيت في بيتنا أو حيِّنا شجرةً قط، فأتى بستان المدرسة ليفاجئني بعالم من الخضرة والندى والظل والاحتواء ! وما كانت تلك حديقة مختصرة متقشفة، بقدر ما كانت جُنينة غنّاء وبقعة ساحرة، تكامل فيها العشب والشجر والنوافير والفسقيات والعرائش الظليلة، حيث تلتفّ عليها النباتات المتسلقة كما يلتفّ العنب على الدالية، وحيث تزورها الطيور وأسراب الفراش والنحل· أما الأزهار فقد كانت بحراً من الألوان والأضواء، تومئ لنا في كل بقعة ومنحنى، وتهمس لنا بأسمائها لنحفظها ونستظهرها : الدفلى والقرنفل وفم السمكة والريحان والأقحوان وعبّاد الشمس·· عالم من الظل واللون والعطر والحنو ! وعلى أطراف هذا البستان الرائق تتجمع وتتفرق أشجار باسقة طويلة السيقان شامخة الرؤوس، لا ندري متى نمت ومتى امتدّت ظلالها بسخاء لتحنو على طفولتنا، وتصدّ عنّا وَهج الشمس ! في ذلك البستان البهيّ البهيج درجت الأقدام الصغيرة، وبألوان أزهاره تلوّنت العيون، وتلّون معها العالم الصغير الكبير·

الصفحات