أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 10
ما كان الإيقاع القديم للعَروض يشكّل لي عقبة في التعبير، بقدر ما كان يشكّل عقبة أمام ما وراء التعبير· هناك منطقة أشبه بتموّجات الحلم و اهتزازات الضمير كما يقول بودلير، منطقة سادرة في اندياحها وهيولاها، لا تتكيّف إلاّ مع الحركات المتناغمة التي تصدر عن الروح في هذه المنطقة الواقعة ما وراء التعبير، يصعب ترويض الإيقاعات المنفلتة، أو تعليبها في مدى صوتي مقنن لا يتجاوز امتداد تفعيلة، أو امتداد زنزانة لا فرق! ولعل هذا التصور لعلاقة التعبير بالإيقاع يقترب كثيراً من صورة الفارس والجواد· فرغم اكتمال أحدهما بالآخر، يبقى أن نتساءل : مَنْ الفارس؟ ومَنْ الجواد؟ وعلى قدر ما كنتُ أشعر بأنه في النص الموزون يكون التعبير هو الجواد، أما الفارس فهو الإيقاع المقنن الذي يسوس جواده ويوجهه، بدأت أتيقن أنه في قصيدة النثر تنعكس الآية، فيصبح الإيقاع هو الجواد، أما التعبير فهو الفارس الذي يقود جواده ويحدد انطلاقاته ومساراته·
 
ولكن يبقى أن الحرية فيقصيدة النثر ليست حرية مقطوعة الجذور بتاريخ الشعر وميراثه، بقدر ما هي سبقٌ وتجاوز لطقوس هذا التاريخ المضمر وصلواته الأولى· وهي أيضاً ليست حرية الجهل والفوضى، بقدر ما هي حرية الاكتشاف والنمو والاستعلاء· لذلك لا يمكن لقصيدة النثر المتميّزة أن تنهض على فراغ معرفي، أو تنبت في قريحة بلا مرجعية· بل يمكن القول بكل اطمئنان، أن الوصول إلى هذا الشكل من الشعر ، لا يمكن إلاّ أن يمثل مرحلة تطورية تولد من رحم شرعيّ وأبوّة حقة· أما تحديد هوية هذه الشكل الشعري، وكونها أصيلة أم مقتبسة، فتلك مسألة خارج السياق، ما دام الشاعر ابن الحياة الواسعة وسليل الميراث الإنساني الكبير·
 
وتأتي الإنجليزية لتشكل لي بُعداً لغوياً آخر· كنتُ وأنا أطعّم نص طقوس الاغتسال - الذي واصل امتداده عبر ثلاث ثنائيات متقابلة - بمقاطع شعرية ونثرية من اللغة الإنجليزية، أشعر بأن فضاء النص يتّسع ويشعّ ويواصل انتشاره الكوني، وأنني أعاين لوناً من الذهول والتوارد الحر وانثيال اللاوعي، بل كأن هناك طاقة حرارية مضمرة تشبه طاقة النواة الألكترونية تواصل مداراتها واندياحها· ويبدو أن هذا الانفجار اللغوي، جاء ليوازي الانفجار في كوني الداخلي وأنا أعبُر تلك التخوم بمستوياتها النفسية والفكرية والحياتية، فبدا لي عالمي بغتةً عارياً ومنكشفاً ومهولاً في ذكرياته، ووجوهه، وصوره، وأوجاعه، وتحدياته، وآماله·· وأنني أقف إزاء هذا الانثيال كما يقف الإنسان الأول أمام طقس الأعاصير، مرتجفاً وبريئاً، إلاّ من صلواته وتهجّده !
 
كان لا بد أن يواصل هذا الانفجار النثري مداه، ما دام للمكان شروطه، وللزمان خصوصيته· وما كان للروح إلاّ أن تلوب في فلك هذين القطبين: زمانها ومكانها، كما يلوب الفهد البريّ في براري الظمأ ومهاوي الغبار ! لا شجرة تنبت فوق حافة ذلك العالم المتوحّد حدّ اليُتْم، الخاوي حدّ الهول، اللامبالي حدّ الدهشة !·· وما كان لثمرة الكمثرى - التي كنتُها - إلاّ أن تتدلى كنقطة أخيرة، وتنزف عصيرها في الفراغ !
 
ومن هنا ما كانت لغتي المنثورة وتضميناتها ترفاً لفظياً أو مماحكة فنية، بقدر ما أتت على مقياس ذلك العالم : فضفاضة، حارقة، قانطة، مخذولة، متشظية· كانت لغةً معذِّبة تبحث عن نجم النبوّة على مستوى الخلاص الإبداعي، وعن كفّ الله لتمسح جسد الكون العاري على مستوى الخلاص الشعوري والنفسي·
 
قد يبدو غريباً، وأنا أعيد اكتشاف ذاتي من خلال قصيدة النثر، أن قراءاتي في الشعر الإنجليزي كانت قليلة، إن لم تكن نادرة ! وأن جلّ القراءات الخارجية كانت تصبّ في خانة الرواية والسيرة الذاتية· لعله نزوع نحو الفضفضة والتأمّل، والانسراب المتأني إلى قلب الأشياء· بل لعله رغبة في اقتسام خبز الهمّ الإنساني وإدامه، حين يتراءى من خلال شخصيات حقيقية أو أقرب إلى الحقيقة· لقد وجدتُ في تلك الأعمال النثرية لغة أقرب إلى الشعر، ليس الشعر المصقول، المكثّف، المرمري الملمس ، وإنما لون من الشعر الغائر، المنسرب، المكتوم، المتدثّر بنكهة النحيب دون الدموع، واللوعة دون الصراخ، والبوح دون الجهر· وما زلت حتى الآن استطعم ذلك الزخم الإنساني الحميم في Sons and Lovers ل د· اتش· لورنس، وأعيش عذابات سومرست موم في رائعته Of Human Bondage، وأنسرب مع تأملات أوسكار وايلد ووحشية رؤاه في The Picture Of Dorian Gray· وأحياناً أسرق نفسي من ذلك العذاب الجميل لأجلس على رصيف Roald Dahl كما يجلس العامة يتفرجون، ويلحسون الأيس كريم· وقبل كل ذلك كانت لي مساءات كالضوء مع أرق لغة إنجليزية وأكثرها شفافية وعذوبة، متجسّدة في مزامير داود وفيوضها الإلهية، والعهد القديم وآياته· موائد من العذاب والحنو والمباهج الآسرة، تحلّق حولها طيور الروح وتنقر منها ما تيسّر، ثم تؤوب مغتبطة بالجنى، مشرعة أشواقها نحو المزيد·

الصفحات