أنت هنا

قراءة كتاب تتكسر لغتي.. أنمو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تتكسر لغتي.. أنمو

تتكسر لغتي.. أنمو

في هذا الكتاب قراءة لهذه اللغة الشعرية وذلك على ضوء شواهد تم اختيارها لإظهار أسلوب الشاعرة "نجمة إدريس" وبالتالي يحتوي هذا الكتاب على جزئين الجزء الأول دراسة للسيرة الشعرية لنجمة إدريس والثاني عبارة عن نماذج مختارة ونصوص لأجمل ما دونت الشاعرة.

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
وبقدر ما كان البستان نافذة أولى للانبهار الكوني، كانت الحظيرة هي النافذة الثانية للبهجة وتلقي علوم الحياة· فما أن تنفرج الأشجار المستطيلة الفارعة ونحن نتوغل بينها، حتى تنكشف الساحة الرملية عن أقنان الدجاج والأرانب والكتاكيت الصفراء، المتراكضة بين أرجل أمهاتها حيناً، وبين أرجلنا الصغيرة حيناً· وبين أسراب الدواجن والوقوقات تتوسط البركة التي يسبح فيها البط والإوز حراً بلا سياج، حتى ألِف المكان وألِف وجودنا ومداعباتنا· كانت معلمة العلوم تدعونا لنقترب من حافة البركة لنرى كيف تضرب البطة الماء بأرجلها التي نمت بين أصابعها أغشية شفافة تعينها على السباحة، وتأخذ بأناملنا الصغيرة لنتحسس قطرات الماء الدهنية التي تغطي ريش الإوزة حتى لا تبتل· لا أتذكر في تلك الأيام أن المناخ كان قاسياً، أو أن الشمس لافحة ! بل كان كل ما حولنا ينضح الندى والظل والحنو· هل كان السبب الجُنينة الغنّاء، والحظيرة الظليلة؟!
 
هذا الاندياح في عالم ملوّن وفسيح - بمقياس قامة طفلية -، وعالم مُعبِّر ومنكشف على مباهج الروح الغضّة ودهشتها، تعزّز باندياح آخر نحو تحسس الذات وفهم حاجاتها· ويبدو أن الإنسان منذ الوعي الباكر بكينونته، يبدأ بالالتفات إلى ذلك الفراغ الذي يغلفه، والذي يشعره بالذوبان والسقوط، وعليه لتدارك ذلك أن يتشبث بمساند ودعائم تبني ذاته وتحدّدها وتؤكّد ملامحها، وتخلّصها من الضعة والهشاشة واللون الحائل· ومن هنا يتخذ الإطراء والتشجيع، وكلمة برافو في الفصل وقعاً آخر، ويستحيل إلى رافعة فولاذية هائلة ترفع عن الكاهل والصدر كل آثام الغفلة والاستصغار واللامبالاة· أما لمسة المعلّمة لكتف أو ذراع مع كلمة عابرة أو إيماءة حنون، فتلك فرصة نادرة لمباهج الروح وأعراسها ! حينها يكتشف أحدنا أنه موجود، وأن له روحاً وجسداً، وأنه لم يعد سقط متاع أو مجرد شيء من الأشياء !
 
لم تكن المدرسة - بكل تواضع عالمها وصغره - نافذتي على الحياة فقط، وإنما كانت أيضاً نافذتي المبكرة على انطلاقة الوجدان، ودبيب المشاعر، وحماقات الصبا ومراراته· ويبدو أن الحياة المدرسية بما تكرّسه من قيم المنافسة والسبق، والثواب والعقاب، تظل دوماً هي المحرّك الأول للأنا البازغة، تشحذها كي تهتزّ وتربو، وتتغلب على هشاشتها وعدميتها· وربما تنكؤها بقسوة لتستخرج دَرَناتها وجذورها المغروزة في الطين· وفي المدرسة تتحقق الملامسة الأولى لعالم الآخرين، والدخول إلى عالم من المرايا التي تنعكس فيها الوجوه، ما بين كاملة الملامح ونصفية ومضببة، وتتلامح فيها الألوان ما بين دافئة وباردة، ومبهجة وقاتمة· وجوه تبقى، ووجوه ترحل، وأسماء تذوب، وأخرى تتعرش كالأعناب في دالية الذكرى·
 
ورغم ما انطوت عليه الحياة المدرسية من انتصارات وخيبات، ومن تسلّق مؤلم أو تأرجح فارغ، يظل لتلك الحياة زخمها المعرفي والنفسي والعاطفي، وتظل بصورة ما كوناً ذا حركة ومَوَران ، نرانا بين عطفيها نكبر وننمو وتستطيل غصوننا، ونرانا نتسلق درجاتها ومراحلها مفعمين بالانتظار والتوقّع واللّهاث· يقابل هذا الكون المتحرّك المتنامي في المدرسة عالم البيت، بإيقاعه المتخثّر، وزمانه الأقرب إلى الثبات والارتهان للركون والحجز· لا شيء ينمو في ذلك العالم البيتي سوى طحالب الضجر والرتابة، والأيام المتشابهة، والعمر الحائل! كون مستعصٍ على النمو، ومستعصٍ على الحركة، ومستكبر على الحميمية والملامسة· كل شيء يسقط في الفراغ كحجر، اليوم والأمس والغد، وكل شيء يتساوى، الشهقة والدمعة والضحك، وكلٌ باقٍ لا يريم، العزلة والغفلة والصقيع ! لا غرو أن تكون العطل المدرسية مقصلة للروح، وطاحونة للقلب· وكما يحصي السجين أيامه ويحفرها على جدران زنزانته خطوطاً طولية وأفقية تعينه على اجتياز محنة الوقت، كنتُ أفعل فعله حين تطبق عليَّ العطلة الصيفية بدهورها الثلاثة· أهرع كل يوم إلى الرزنامة لأشطب منها رقماً وأحصي ما تبقى·· أشطب وأحصي ! وكأني بذلك أهرس بقلمي عقارب الوقت وثعابينه وسحاليه، وأسلخها من جلدي وشعري·
 
وتظل معجزة المدرسة الكبرى أنها تعلّم القراءة والكتابة· وهل هناك أعظم وأروع من قدرة الإنسان على تعلُّم الأبجدية ؟! ليس أبجدية الحروف قطعاً، وإنما ما تقود إليه تلك الشيفرة السحرية من إبحار سخي في عالم من القراءات والمشاهد والأصداء، ثم ما تُنمّيه لاحقاً من قدرة على الإفاضة من معين لا تدري من أين يفجؤك برذاذه وغواياته !
 
هل كان صدفة أن يهديني المنفلوطي نظراته وعبراته وأنا في الثانية عشرة من العمر، ليضيء لي شمعة أخرى من شموع البهجة واللوعة ؟!·· كيف تقمصني هذا المنفلوطي وجعلني أنشد مقطوعته الرحمة في الصف الثاني متوسط وأستظهرها بكل ذلك التوهّج والولع ؟! ثم كيف أخذ بيدي وئيداً نحو عذوبة الحزن، ولذة الشكوى، وبؤس الحياة، وصفاقة المقادير، وضعف الإنسان· وقبلها أخذني نحو شعرية النثر، وموسيقى التعبير، ودبيب المشاعر وطراوتها· لم تكن مقطوعة الرحمة سوى درس من دروس المحفوظات كما كان يُسمّى في عهدنا، ولكنه درس قادني إلى اكتشاف المنفلوطي الأكثر سخاءً وانثيالاً من تلك المقطوعة المبتسرة· والغريب في الأمر أن النظرات بأجزائها الثلاثة كانت تربض في خزانة أبي مع غيرها من كتب لم أكن أُحسن فك أبجدياتها حينها، كدواوين التراث والكتب التاريخية والمجلات الشهرية· ولعل للفضول دوراً في تلك المصادفة التي رأيتُني بها ألامس تلك الأجزاء الثلاثة من النظرات، ثم العبرات، ثم أقاصيصه الرومانسية المترجمة مثل بول وفرجيني التي أسماها الفضيلة· لا أزال أذكر أغلفة هذه الأجزاء بطبعاتها المتواضعة وقد تربعت صورة المنفلوطي بالحجم الصغير على غلافها، متشحاً زيّه الأزهري وشاربيه المعقوفين· لم يكن ثمة ارتباط في ذهني بين تلك الصورة الرصينة المجللة بتقليدية ظاهرة، وبين تلك الروح المنسرحة بالرومانسية والرقة وطلاوة الأسلوب ونداوته! ولعل المنفلوطي كان يقصد إلى تلك المفارقة ويتعمدها ليثير هذا التساؤل المشروع !
 
وتأتي ميّ زيادة بعد المنفلوطي لتسكن حشاشتي ! وتأتي معها نكهة الحسّ الأنثوي وعذوبته ولوعاته· ما كان أبدعها كاتبة وأديبة وشاعرة ! حضورها في الفكرة والجملة والمفردة كان حضوراً طاغياً للأنثى الواثقة المتأبّية، واثقة من صوتها وملامح وجهها وجدّتها الطارئة، ومتأبّية جموح في المواقف والأهواء والعواطف· ولعل ما زاد تألقها في نفسي أمران· الأول، قصة الحب بينهـا وبـين جبــران، وهي تكاد تكون قصة كل الفتيات الطليعيات الحالمات بالإنسان - النموذج الذي يخلقه الوهم، ويغلفه الغموض، وتستدعيه الحاجة· ولكنه يظل نائياً ومترامياً كغيمة، ومستعصٍ على الحضور، وذلك هو الإغراء الأكبر· إذ ما كان أكثر الرجال حول ميّ زيادة، وما كان أندرهم وأبعدهم! ولعلها أدركت بحدسها المرهف وحسّها الراقي ما انطوى عليه أولئك من ازدواجية وممالأة وتذبذب، فلاذت إلى أصقاع نفسها واكتفت بعالمها رغم صقيعه وفرادته· أما الأمر الآخر الذي سمّرني عند عالم ميّ زيادة، فهو ما انتهت إليه رحلتها الإبداعية والحياتية من انكسار وخيبة، ومن سقوط مُروّع للكمال والجمال والعقل كما يزعمون· إذ يُقال أنها جُنّت ! ويُقال أنها أُدخلت إلى العصفورية ! ويُقال أنها انتهت إلى حطام بشري، وقضت وحيدة في الخمسين من عمرها، بعد أن أرمضتها الوحشة والكهولة أو (العنوسة) ! وكأنني بمن كتب هذه السيرة، أو من أخرجها بهذه الصورة المُذلّة المتهكمة يشير بطرف خفي إلى المصير الذي ينتظر النساء الطليعيات في شرق يفوح بالبؤس، ويعاني من الحساسية المفرطة إزاء النساء المتمردات على الوأد والضعة· لا أدري إذا كانت ميّ زيادة وهي تكتب الشعر بالفرنسية، وتخطب في الندوات، وتخط بقلمها البارع المقالة والقصة والدراسة، وتتصدر صالونها الأدبي بثقة واعتداد، لا أدري إذا كانت وهي تفعل كل ذلك تدرك حينها أنها تقبض على الريح وتبذر في وادٍ غير ذي زرع ؟! لقد ظلت ميّ زيادة بزخمها الحياتي العابق بالصراع والمأساوية نابضة في وجداني حتى الآن، وممثلة للنموذج الإبداعي النسوي في قمة معاناته للمأزق الثقافي والحضاري في مجتمعاتنا الشرقية·

الصفحات