أنت هنا

قراءة كتاب تدافع العقول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تدافع العقول

تدافع العقول

يمثل هذا الكتاب محاولة نقدية لأطروحات الإلغاء والتغييب والتصادم، وعمليات التضييق المستمر على العقل المتعدد النشاطات والمجالات والمعاقلات. السؤال المحوري فيه هو: لماذا أغلقنا على عقلنا العربي ووضعناه في خانة المتهم؟ ولماذا تفرغ عقولاً شتى؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

الفصل الثاني

ما قبل الحداثة إلى ما بعدها

1 ـ تجديد الأساطير

يُسلم الكثير من الناس بأن العالم يقفز مسرعاً ويمارس مهمته في تغيير النظرة إلى الكون[10] والوجود. وهذا ما ينقلنا بسرعة كبيرة إلى عالم ما بعد الحداثة والتفكيك، المليء مجدداً بالأساطير، إلى النظام العالمي الذي يسعى إلى تفكيك وتذرير المفاهيم والأفكار والقِيم والشعوب والبلدان على نطاق واسع.
هناك مفصل أساسي عاشه العالم الغربي اعتباراً من القرن السابع عشر، حين حرر العقل الفلسفي من هيمنة العقل اللاهوتي، بعد مواجهة بين الفكر العلمي المدني والفكر الديني الكنسي، لم يكن ذلك إلا صورة انقلابية في تاريخ الفكر، أميت فيها اللَّه مجازياً واعتبارياً، ونقلت أوروبا من عصر إلى عصر آخر، وانتقل معها العالم بعدما التحق بها إلى مرحلة جديدة.
ربما أعطى هذا الانقلابُ الإنسان في الغرب إمكانية أن يكون له معياريته الخاصة، منحته استقلالية عن معيارية تحكمت به طوال قرون، وبالتالي فإن مكانة هذا الإنسان اختلفت كلياً عما كانت عليه في القرون الوسطى، فلم تعد خصوصية الإنسان تتمثل في انفصاله التام عن المخلوقات الطبيعية، إلا في موقعه الوجودي ولا في وعيه الإنساني، إذ كان على الحداثة أن تعبر به إلى مبدأ السببية المعممة في انقلاب فعلي يجعل منه جزءاً من الوجود الطبيعي العام، فيصبح موضوعاً للعلم، ويغدو ممثلاً للحقيقة التي تكمن في ميدان العلوم البحتة وتنزع وراء الوعي.
لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن الإنسان أصبح يقبض على الحقيقة أو أنه بات يدير العالم بمنتهى العقلانية، بل إن هناك مساحة أوسع للاوعي تتحكم في حركته العامة وتقبض عليه.
وُلِد عقل التنوير في مجتمع أوروبي كان يعيش حالاً من «الهيمنة اللاهوتية» القائمة على المزاج الذي يوفر اللحمة والتناسق، إذ يؤدي الفكر الكنسي دوراً في تحديد موقع الإنسان في الوجود، وفي دور الوعي الإنساني، هذه الولادة حصلت في مجتمع وجد أنه بحاجة إلى مفاهيم جديدة تديره، تضخ فيه روحية جديدة، تقرأ فيه الشكل الإلهي بوصفه شكلاً إنسانياً غير مباشر، تقرأ فيه العقل اللاهوتي أو «الفكر الكنسي» بوصفه عقلاً إنسانياً، فكان على «الفكر العلمي» أن يتصدى «للفكر الديني»، أو «الكنسي» في محاولة مستميتة لتعميم السببية العلمية، وتثبيت العلم الإنساني ضد الوعي الإنساني.
بعد أن استكمل أدواته وسوّغ ضرورات وجوده، ظهر العقل التنويري، عقلاً أدوايتاً انتهازياً بارداً، بدءاً من الثورة الصناعية إلى ظهور هتلر وأفوله إلى ستالين وإلى إنشاء الكيان العنصري (إسرائيل) في قلب العالم العربي والإسلامي، إلى إنشاء دولة عنصرية في إفريقيا (إفريقيا الجنوبية) إلى مراحل الاستعمار القديم والجديد، بأشكاله المختلفة، إلى حروب البلقان وأفغانستان والسودان وحروب الخليج واحتلال العراق، وحروب إسرائيل على فلسطين ولبنان وسوريا، إلى العنف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الممارس ضد الفقراء، إلى الأزمة المالية التي تعصف بالعالم وانهيار المؤسسات المالية والصناعية الكبرى، أعاد هذا العقل إنتاج الاستبداد والغرق في الظلام الذي ساد القرون الوسطى وفي أثناء الحملات الصليبية على الشرق (الدوران في حلقة التاريخ).
لم يكن هذا الأمر مجرد انحراف أو هفوة، كما يحاول محمد أركون[11] أن يقول: بقدر ما هو انتقال من مستوى تأكيد السيطرة والنفاذ إلى ما وراء حدود رسم الأزمنة التاريخية الظاهرة للشعوب الأخرى، إلى مستوى تأكيد وجود عقل له خاصيته الفيزيولوجية الوظيفية، وإمكانياته في امتلاك القدرة على إعادة صوغ التاريخ البشري برمّته، وتأكيد تفوقه وقدسيته الرمزية من خلال ما يفرضه على المجتمعات البشرية في النظرة التاريخية الفيزيولوجية، التي تجعل الإنسان وليد تطور طبيعي.
هنا ينبغي قول شيئين اثنين:
الأول: هو أن تقنيات التجهيل المعرفي[12] التي استخدمها العقل الغربي لحمل الناس على الخروج من الديني، من خلال إيجاد نظرة جديدة إلى حقيقة الإنسان، هي في أساسها تقنيات استلابية تعامل فيها الحقيقة مثل فردوس مفقود، تمثله قِيم الفكر الفيزيولوجي والاستنارة، وفي هذا عودة إلى معاملة الحقيقة بعقل غيبي ما ورائي، ومنطق آحادي، بوصفها زمناً ينبغي التقدم نحوه، وبذلك يغدو هذا العقل استمراراً لعقل أسطوري سابق، أباح استخدام الغيبي من خلال الدنيوي، لرسم المنظومة الحياتية في وعي الناس.
الثاني: إن الانتقال من الحداثة إلى ما بعدها إلى التفكيكية مع عقل كهذا يتم مرة أخرى باستبعاد عقول الآخرين، وحضاراتهم من ساحة الحضارة العالمية، وإقصائها من التاريخ.
وهذا ما يجعل من المهم معرفة كيف أن عملية الانتقال هذه تمت وتتم مع أساطير جديدة؟ حصلت عملية الانتقال، باستعادة الأدوار التي كانت سائدة في القرون الوسطى، وفي مرحلة الثورة الصناعية والحداثة، بعناوين وشعارات جديدة للنهوض بأدوار ومبانٍ جديدة يجري استبدالها تبعاً لضرورات المرحلة، فمثلاً كان لا بدَّ لصدام الحضارات الذي تحدث عنه صموئيل هنتنغتون تعبيراً عن آراء وأفكار كثر، أن يأتي جورج بوش الابن ويقود حروب المحافظين الجدد على قرقعات الآلة الأميركية، ثم جرى استبداله بباراك حسين أوباما، الأفريقي الأصل والمسلم الأصل، الذي عليه أن يقود الحروب بصورة أكثر نعومة وقرقعة قليلة للآلة الأميركية، لتعميم مبدأ التفكيك والتذرير وبالتحديد في عالم العرب.
في سياق هذه المقاربة، السؤال الأبرز هو أين العرب؟ أين يذهبون بعقلهم التاريخاني المبني في التاريخ الاعتقادي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي، وحتى الفلسفي؟ في مقابل ما يمارسه الغرب.
وهل حقاً أن ابن رشد آخر العقلانيين العرب؟ ولم ينجح العرب حتى القرن الواحد والعشرين في إنتاج عقلاء جدد؟ كيف سيواجه العرب مرحلة التفكيكية، بعدما فشلوا في الحداثة والعولمة؟ كيف سيواجهون قضاياهم الكبرى، وخلافاتهم وصراعاتهم؟ أسئلة كثيرة تتراكم أمام النظام العربي والثوار العرب والمثقفين العرب والمجتمع العربي كله.
لا وهم أن كل عقلانية تحمل في طياتها أوهاماً وخيالات وأساطير، فأين أوهام العرب وخيالاتهم وأساطيرهم؟

الصفحات