أنت هنا

قراءة كتاب تدافع العقول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تدافع العقول

تدافع العقول

يمثل هذا الكتاب محاولة نقدية لأطروحات الإلغاء والتغييب والتصادم، وعمليات التضييق المستمر على العقل المتعدد النشاطات والمجالات والمعاقلات. السؤال المحوري فيه هو: لماذا أغلقنا على عقلنا العربي ووضعناه في خانة المتهم؟ ولماذا تفرغ عقولاً شتى؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

3 ـ تجديد النقد والتحرر من الوهم

تفضي مواجهة وقائع الأمور في مجتمعنا، إلى بروز مسألة المقدس والمدنس، الديني والدنيوي، اللاهوت والناسوت، وكيف تتعامل معها البنى الاجتماعية على وجه الخصوص.
كثيراً ما يمارس السلوك الاجتماعي انتهاكات أساسها جهل الذات بمقدساتها تارة، وبمقدسات الآخر تارة أخرى، هذه القضية الاختلالية في السلوك، تؤدي إلى بروز واقعية ذات توجهات تؤسس لخطوط حراك متعددة المرجعيات، فيما تغلق الأبواب أمام الحوارات، وتنغلق الجماعات على ذاتها في متحدات كينونية، يتبارى أسيادها في ادِّعاء الانفتاح والتعارف والتفاعل والقبول وتبادل وجهات النظر.
انشغل أسلافنا بتنوع العقول وتعددها، بتعدد فضاءات الرؤية ومناخاتها، في محاولة إطلاق فلسفة كانت بمثابة حدث داخلي، غير مستورد، بل نشأ في أمة تسعى إلى تحقيق مثالها العيني التاريخي، بدءاً من دولة المدينة ـ دولة النبي محمد (ص) ـ فتلازم بذلك تاريخية فلسفتها مع تاريخية مثالها، هذا الأمر، لم يستطع أحد منعه من الحضور مأثوراً حضارياً، رغم محاولة الآخر إنكار هذه الفلسفة وهذا التاريخ، وزرع هذا الإنكار وسط جمهور لا يستهان به من المتغربين، وهذا ما أفض إلى بروز عقل التباسي ضيق، متعارضٍ ومتصادمٍ مع مشروعية التاريخ والفلسفة، في زمان تاريخي جزئي قوامه مبدأ المنفعة.
مع بداية منتصف القرن العشرين، وفي نهاياته مع القرن الواحد والعشرين، برزت إشكالية كبرى في المجتمع العربي، توحي أن مبدأ نصرة الأمة لم يعد المعيار الذي يُجمع عليه العقل العربي ـ خذ مثالاً على ذلك، ردود الفعل العربية على خطاب رئيس وزراء العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو حول يهودية كيان إسرائيل وإنهاء القضية الفلسطينية، بتاريخ 15/6/2009 ـ وسادت معايير متعددة ناظمة لحركة اجتماعية، تحتاج إلى مساحات واسعة داخل بنى الاجتماع العربي، مرّت قرون طويلة قبل أن يصل إلى هذا المستوى من الالتباس، إن ما حصل كان ضرباً من الوهم والانبهار بالعلمي والسياسي المستند إلى العقل الاعتقادي والآتي من جارتنا أوروبا ومن أميركا، فيما بوركيو في معجمه Dictionaire Critique de la Sociolgie يصرّ على أن الحداثة الأوروبية و«العقل العلمي» الأوروبي كان لهما مصدران أساسيان: الأول عربي والثاني يوناني.
لا بدَّ، هنا، من الإشارة إلى أن المنطق الذي اعتمده «العقل العلمي» الغربي للخروج من القرون الوسطى وهيمنة «الفكر الكنسي» إلى مرحلة الحداثة، وفي تعميق مصادره؛ تمثل في توفير قوى ذاتية تسمح بتعاظم مركز قوته، وسلطانه، وتحرره فعلاً من القيود والضوابط التي كان من الممكن أن تجعله مستلباً أو أسيراً لعقدة انتمائه إلى مصادر تفرض سلطتها عليه.
إشارتنا هذه جاءت لتوضح، أن ما قام به العقل الغربي، أعطاه مجالاً أوسع وحريةً أكبر للاستقلالية، وفرض نفسه على الآخرين، ومنهم العقل الغربي، الذي حاول في عصر النهضة استرجاع المفقود من مأثور الأمة، في محاولة لإحياء مشروعها، عبر عدة أدوار، هذه القضية محورية، وفيها أدوار لا تزال ملتبسة حتى الآن.
يقول بعضهم إن ابن رشد كان آخر العقلاء العرب، وحتى الآن يكتفي الكُتّاب العرب ـ معظمهم ـ بتجديد نشر المنشور، وإعادة خط المخطوط، من المأثور الفلسفي العربي، ولم يستطع هؤلاء الإفلات من سلطة العقل الغربي، فبعدما استطاع العقل العربي الإفلات من سجن الخلافة العثمانية، عاد هؤلاء ليقعوا ويوقعوه في أوهام تفوّق العقل الغربي وتقنياته، وهيمنته السياسية والاقتصادية، فيما يحاول آخرون إظهار بوادر استقلال أو إستقالة من سلطان الاستعمار، وعقله الاستغلالي، من خلال وضعهم لنا أمام عقل زاخر بروحية الصراع والتصدي والتحدي.
لا وهم عندنا في أن تغني العربي بمآثره الفكرية والفلسفية وابتكاراته الثقافية والحضارية، وفتوحاته الواسعة، لن يغنيه عن التفكير الفعلي بواقعه الراهن، بل يحتم عليه حتى يظل أميناً لإبداعاته السابقة العقلانية التاريخية، أن يكون حاضراً الآن في معركة إعادة إنتاج العالم بقواه وعلاقاته ولغاته ورموزه وأدواته ووسائطه.
وفي استعادة وقائع أثرت في استمرارية تقدم العقل العربي وتطوّره، بعدما كان الفكر الفلسفي داخل السياق العربي قد خطا خطوات نحو تشكل عقلانية تتجاوز التراث، هذه الخطوات كانت حدثاً داخلياً نشأ في ذات الأمة. لكن الفكر الذي كان يهدف إلى إيجاد استقلالية العقل الذاتية وتأمين مسؤوليته الفكرية الكاملة، صدم أمام النكبة التي حصلت لابن رشد سنة 1195م. والتي وجهت ضربة قاسية وقوية، تفسر ما حدث لاحقاً من ارتحال نحو الغرب واعتباره نموذجاً، فلم تعد إمكانية تكرار التجربة ذاتها حاضرة، وأصبح الخوف مستحكماً من تكرار النكبة، فكبت من كبت وارتحل من ارتحل.
هنا الصراحة والشفافية شرطان ملازمان لكل حديث عن السياق العربي وإمكانيات هذا السياق، فهل نستطيع هنا أن نسأل العربي، إن كان يريد امتلاك عقل استقلالي ذاتي المباني؟ أم يريده ملحقاً بغيره من العقول؟...
الإجابة عن هذا السؤال تقودنا قبل الوصول إليه، إلى القول إن الإنسان العربي اليوم هو أمام ثلاثة عوالم، لكل منها هويته ومركز استقطابه:
الأول: العالم الديني بكل مآثره وتصوراته، وتشظياته.
الثاني: العالم الفلسفي بتوهيماته الإنسانية التي تبث هنا وهناك.
الثالث: هو العالم المتشكل بمعرفته الرقمية والآيل إلى الانهيار بالمعرفة الرقمية، أيضاً.
في الواقع، العالم يمضي مسرعاً دون انتظار، وهو يخضع لتحولات وتقلبات القِيم، والمفاهيم، والشروعات، والأولويات، ونحن لا نزال نخضع لأوهام، والمطلوب هو فتح المجال لنشوء ممارسات معرفية تتلقف ما ساد، وتنتج فلسفة نشطة فعّالة، مشاركة في فهم الواقع الحي والمتغير، في سبيل ذلك ينبغي فتح حقول ومجالات أمام عمليات الاشتغال الفكري واستثمار التراكم المعرفي، وتحويله إلى آلية تسرِّع في المشاركة والمساهمة، في خلق مساحات أوسع في العالم لإنسان أكثر تقدماً وتطوراً.
ليس لأحد هنا أن ينكر التفاوت في الثروة والمعرفة والقوة، بين الغرب وبقية العالم، وليس لأحد أن يغفل كبوة العقل العربي وجواده، وكبوة الجواد الأوروبي حاضراً، في مقابل عولمة والآن تفكيكية يقودها الأميركي، وثورة تقنية ورقمية تنتج تآكل الحدود بين الدول، هذا الواقع لا يمكن رفضه، من خلال التظاهرات مثلما حصل ويحصل في أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية كلما انعقد مؤتمر الدول الكبرى، أو بالرفض السلبي والانجرار الصامت خلف ما يحصل، فالرفض ينبغي أن يبدأ بابتكار المعادلات الوجودية وتظهيرها، وكذلك الصيغ الحضارية، بعد القيام بعملية قطع معرفي واعٍ، مع الميت من موروثنا، ووصل الحي منه، في عملية إجرائية تحتاج إلى مساحة معرفية داخل تاريخنا الحي المعاصر، ولا يقتصر ذلك على إسقاط الأنظمة الديكتاتورية بالثورات الشعبية بل استمرار هذه الثورات في المستويات الفكرية والمعرفية والعلمية وتحفيز الشبان للالتحاق بها.

الصفحات