أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 2

ها هو... سأجِدُه. ولكن لا، هذا المفتاحُ في صندوق، يجبُ أنْ أذهبَ وهذا المفتاح... المفتاحَ نفسَهُ أجلِب، عفواً... لحظةً واحِدة. أين ذهب... أعلى حافّةِ النَّافِذَةِ الصّغيرةِ أم على الطّاولة؟ أنا الّذي أحتَفِظُ بالمِفتاحِ دائماً في جيبي... ألِأنَّ.... في الواقِعِ هي احتِمالات. حَسَناً، منذُ كُنتُ آتي إلى البيتِ عندَ الغروبِ لا أخرُجُ منهُ إلى الوقتِ الّذي أكونُ فيهِ مُضطرّاً لِتغييرِ ملابِسي المُرَطّبة. علّني أجِدُ هذا المِفتاحَ بالتّسبيحِ والقدّاحة ـ حتّى قدَّاحة البنزين الألمانية هذهِ لم تعُدْ تعمل ـ حافَّةُ واجِهةِ المدفأة، تحتَ صورةِ الكولونيل، نعم، صحيح....
كان المكان نفسه. تماماً تحتَ الحِذاءِ الطّويلِ الأسودِ البرّاقِ للكولونيل وبِجوارِ صورةِ محمَّد تقي الّتي تقيسُ سِتَّةً بِأربَعة، الصّورةِ الّتي كانَ أخَذَها بِقصْدِ الحُصولِ على شهادَةِ قيادَةِ السَّيّارة، وها قد مرَّت سنتانِ أو أكثر رُبّما ثلاثُ سنواتٍ وهي لا تزالُ في المكانِ نفسِه، بِجِوارِ الحِذاءِ الطّويلِ الأسودِ البرّاق تماماً حتّى يعتادَ على رؤيةِ ابنِه. نعم أُريدُ أن أعتادَ على النَّظَرِ إلى صورةِ ولدي.
حقيقةً فإنَّ هذا التَّصميمَ من جانبِ الكولونيل كان ناشئاً من حسٍّ دفاعيّ. هو حينَ قرّرَ وضعَ صورةِ ابنهِ مُقابِلَ عينيه أرادَ أن يكونَ في مقابلةِ شيء. يُريدُ أن يحميَ نفسهُ من الغفلةِ بكونِهِ مُقابِلَ ذلكَ الشّيء، ويتصدّى لذلكَ الموجِ الّذي يرتفِعُ من أعماقِ قلبِهِ ويهجِمُ على رأسِه. كأنّهُ كانَ يعتقِدُ أنَّهُ في الوقتِ الّذي تكونُ فيهِ صورةُ محمّد تقي في مُقابلِ عينيهِ، فإنَّهُ لن يغفَلَ عنه. في الواقِعِ إنَّهُ قرَّرَ بالمُداومةِ على مُشاهَدَةِ صورةِ محمد تقي أن يجعلَ من نفسِهِ مواجِهاً لِهجومِ شيءٍ يُريدُ أن يفنيَه. وهكذا فإنَّ مقابلةَ الكولونيل لشيءٍ لا يُريدُ أن يكونَ مغلوباً لهُ صارتْ عادَةً له، وكانَ هذا شبيهاً تماماً، بِإطلاقِ النَّارِ والمواجهةِ في المناوراتِ العسكريّةِ النّظاميّة: أو كالحربِ نفسِها. في الحربِ تحصلُ الضَّربةُ الخطيرةُ في غفلةٍ من المُحارب. بالاستعدادِ المُسْبَقِ فقط تستطيعُ اتِّقاءَ الضَّربَةِ ومنعها.، وكثيراً ما جعلَ مقابِلَ عينيهِ وللسَّببِ عينِه صورةَ الكولونيل الكبيرةَ بتمامِ القامةِ الَّتي مرَّ عليها أكثرُ من نِصفِ قرنٍ من الزّمان، وكان يتمنّى بِحسرةٍ لو كان يستطيعُ وضعَ صورةِ زوجتِهِ تحتَ رُهابَةِ سيفِهِ في الزَّاويةِ اليُسرى من إطارِ الصُّورةِ تماماً، ليجعلَ لها موضعاً مقابلَ عينهِ ويتمكَّنَ من النَّظرِ إليها. لكنْ لا أستطيع. إلى الآنَ لا أستطيع. بينما كان من الممكنِ أن يضعَ صورةَ بروانة بسرعةٍ ويجعلَ لها مكاناً أسفلَ حذاءِ الكولونيل. بعد ثلاثةِ أيّامٍ وثلاثِ ليالٍ من كونِ بروانةَ لن تعودَ إلى المنزلِ مُجدّداً، جعلَ لِصورتها موضِعاً في الزَّاويةِ اليُمنى من الإطار بجوارِ صورةِ محمّد تقي، والآن مرَّ شهرانِ تقريباً على وفاتِها وهو يسعى ليُعوِّدَ نفسَهُ على النَّظَرِ إلى الصُّورةِ الصّغيرةِ لابنته، كما هو الحالُ مع صورةِ مسعود الّذي كانوا يسمّونهُ في البيتِ بالصَّغير، نعم الصغير. وربما بِسببِ حاجِبيهِ السَّوداوينِ الكثيفَينِ وأنَّ جبينَهُ كانَ قصيراً، كانَ الأولادُ يُلقّبونهُ صغير الغابة!...
ـ... خُذْ. أتيتُ بالمفتاح، الآنَ وجدتُه. الآنَ أفتحُ الباب، حالاً الآن. عفواً. مساء الخير!
أضاءَ النّورُ القادِمُ من مِصباحِ الكهرباءِ من رأسِ الزُّقاقِ وجهَ الكولونيل وجعلهُ يبدو مِثلَ قمرٍ منير. كان النُّورُ يسقُطُ من الخلفِ على أكتافِهِما، وكان يُغطّي كتِفَي كُلٍّ منهما قميصٌ واسعٌ زيتونيُّ اللون، له قبعة، وكان النُّورُ وحبَّاتُ المطرِ شبيهَينِ تماماً بالغُبارِ الأبيضِ الّذي علا أكتافَهُما وحوافَّ قُبَّعتيهما وأنارَ جُزءاً من وجهيهِما، وأدركَ الكولونيل أنّهما شابّانِ وأنَّ كُلاً منهما يحمِلُ سلاحاً على كتِفهِ وأنَّ كُلاًّ منهما... لقد طالَ الوقتُ الّذي لم يسمعْ فيهِ الكولونيل صوتاً يقولُ لهُ مساءَ الخير، وقد قالَ بِغيرِ اختيارٍ منهُ سلام، ووقفَ مستسلِماً مُنتظِراً أن يتكلَّمَ هذانِ الشَّابّان وينطقا بِكُلِّ كلمةٍ لديهما ويقوما بما عزما عليه.
لم يطُلْ سكونُهما، وأخرجَ واحِدٌ منهُما مِصباحاً من جيبِ قُبّعتِه، وفوقَ نورِ مِصباحِ عمودِ الكهرباءِ الَّذي كان ينيرُ وجهَ الكولونيل، أسقطَ عليهِ نورَ المِصباحِ السَّريع وأدامَ ذلكَ فترةً ثُمَّ أدارَهُ في الباحةِ المُمتلئةِ بالمطر، وقبلَ أن يتحرَّكَ نورُ سطحِ الحوضِ باللّمعان، سَحَبَ خيطَ نورِهِ وأطفَأهُ على وجهِ حِذاءِ الكولونيل غيرِ المُبَلّل، وبقيَ ينتظِرُ تصميمَ وإقدامَ رفيقِهِ على ما يبدو.
كانَ الكولونيل كُلُّهُ سؤالاً. في الواقِعِ كانَ واقِفاً تحتَ المَطَر بكتِفَيهِ البارزتين والانحناءِ الّذي رمى بِهِ الزَّمانُ ظهرَه. وبِنَظَرٍ ثابِتٍ ممزوجٍ بالخوف ظلَّ علامَةً على السُّؤالِ الّذي بدا وكأنَّ يدَهُ ترسُمًه. أمّا من حيثُ الكلام فلم يكُنْ على لسانِهِ أيُّ سؤالٍ وكانَ لسانُهُ في الحقيقةِ عاجِزاً عن أيِّ كلام. قُلِ التَّرحيب، حتّى التّرحيب، هذا العُرفُ الجاري غابَ عن ذاكِرتِه. كان ينظُرُ فقط، كانَ ينظُرُ إلى الشّابَّينِ الّذَينِ لا يزالانِ واقِفَينِ خارِجَ البابِ في حالَةِ من يبحثُ عن سرٍّ مُبهَمٍ في صمْتٍ، وتحتَ ظِلِّ المَطَرِ الّذي يلمعُ في ضياءِ نورِ مِصباحِ كهرباءِ الزُّقاق.

الصفحات