أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

قُلتُ... قبلَ أن أرى هذا قُلتُ إنَّني ومُنذُ وقتٍ بعيدٍ لا أنتظِرُ أيَّ خَبَرٍ سعيد. ولكنْ للإِنصافِ فإنَّهُ خيرٌ من أن يُعطوا هذا الخبرَ السَّيِّءَ للإنسانِ في موقعٍ أسوأ. حسناً، في هذا الوقتِ من اللّيلِ أيَّ تُرابٍ سأحثو على رأسي؟ حقّاً...
الكولونيل يستطيعُ أن يفهَمَ أنَّ عِلَّةَ انتِخابِ مثلِ هذهِ السَّاعةِ ومِثلِ هذا الوقتِ، هيَ إنهاءُ الكلامِ في هذِهِ القضيَّةِ قبلَ طلوعِ الشَّمس. حيثُ أنَّكُم تفهمونَ أَنَّهُ ليسَ من اللاّزِمِ توضيحُ جميعِ جُزئيَّاتِ الشَّيءِ للإنسانِ وتفهيمُهُ كُلَّ شيء. وأخيراً فالعقلُ شيءٌ حَسَن. المرءُ نفسُهُ يجِبُ أن يكونَ ذكيّاً ويُساعِدَ مأمورَ الدّيوانِ في هذا الجانب، ولا يسألُهُ سؤالاً مُعقَّداً في غيرِ مَحَلِّهِ عن شيءٍ يعرفُه. فقد كانَ من المفهومِ والمهضومِ للكولونيل أنَّ مراسِمَ دَفنِ بروانة، مواراة الثّرى يا سيّد! يجبُ أن تتُمَّ دونما أًصوات، وأن تتمَّ بصورةٍ خفيَّة، وأوَّلُ طَلَبٍ من المأمورينَ للمُشاركينَ هو الإمتناعُ عن إظهارِ الجزعِ واللّطْمِ، وأن يسعوا ليبقوا هادئين ومتحمِّلينَ وأقوياء، ممّا يعني في الاِصطِلاحِ الانتباه، وهو يعني السُّلوك كما يجب. في الحقيقةِ، الصَّراحةُ في سلوكِ وبيانِ الرِّجالِ محلُّ إبهامٍ وتخيُّلات، لا تمرُّ دون أن يبقى منها مزيجُ حُزنٍ وتأثُّر، والكولونيل بكُلِّ حواسِّهِ وحالِهِ ظلَّ مبهوتاً وحيراناً لِلَحظَةٍ طويلةٍ جِدّاً، وحيثُ أنَّهُ كان لا يستطيعُ أن يجِدَ غُرفَةَ الصَّندوقِ أو محلَّ الدَّفع فإنَّهُ وبِشَكلٍ طبيعيٍّ جاءَ إلى طَرَفِ الطَّاولة، ومن دونِ أن يلتفتَ إلى مقدارِ المبلغ، أخرَجَ ما وقعَ في قبضتِهِ من العملةِ الورقيَّةِ الصَّغيرَةِ والكبيرةِ ووضعهُ على النَّسيجِ الأخضرِ السَّميكِ الَّذي يُغطّي الطَّاوِلة. عملُ المَلَفّ كان تامّاً في الظَّاهِر. لكِنَّ أمراً ظل يلحّ على الكولونيل، هو أنَّهُ رُبَّما كان مُخطِئاً بِشأنِ لُعبَةِ البليارد. قبلَ ثلاثينَ سنةً تقريباً أو من الممكنِ أكثرُ قليلاً أي في السّنواتِ السّابِقةِ لِمُصادَماتِ النِّفطِ الوطنيَّة، كان قد ذهبَ إلى صالةِ البليارد بعدَ ظُهرِ يومٍ من أيّامِ الخريفِ مع واحِدٍ من رفاقِه، وكان ذلك بعد الرّمي. كان كُلٌّ منهما برُتبَةِ ملازم وسارا في شارِعِ شقائقِ النُّعمانِ الكبير، وطلبَ منهُ صديقُهُ أن يذهبا إلى صالون البليارد ليلعبا دَورَينِ فقط. لم يكُنْ الكولونيل يعرِفُ شيئاً عن البليارد، وقد خسِر. أمّا الصالون فكانَ فيهِ طاولاتٌ عديدَةٌ للبليارد، وجوهُها من نسيجِ الماهوت الأخضر، كُراتُها مُلوَّنَةٌ وجميلة، المُثَلَّثُ مرسومٌ بِشكلٍ دقيقٍ وجميل، عِصيٌّ متينةٌ مبريَّةٌ بشكلٍ جميل، أصواتٌ مزدحِمةٌ مبهَمة، قِطَعٌ من الجصّ وزجاجاتُ ليموناد فارِغة، ولا يزالُ إلى الآنَ يذكُرُ أنَّ رفيقَهُ كان قد قال هذه لعبةٌ روسيَّة. فكأنَّ شيئاً يُشبِهُ الإعتراف بالخطأ للرَّجُلِ الجالِسِ على الطَّاولة قد حصل لديه ممّا جرى، فقال:
ـ اشتبهَ الأمرُ عليَّ... اشتباه... سامِحوني، فكري ذهبَ مني، لعِبْتُ البليارد مرَّةً واحِدةً في عمري!
ـ نعم يا سيِّد؟!
ـ لاشيء. فداكُم... لاشيء... كأنَّهُ جاءَ على لِساني بِهذا الشَّكل وقلتُه. تعلمون، إنَّ لِساني ليسَ باختياري. أحسَسْتُ أنَّ قلبي يُريدُ أن يتذكَّرَ ذُنوبي لأقولها لِشَخصٍ ما!.
الشَّخصُ الّذي كان يجلسُ خلفَ الطّاولةِ تعجَّبَ وجعلَ ينظُرُ إلى وجهِ الكولونيل نظرةَ إبهامٍ كاملٍ، كأنَّما ينظُرُ إلى شيءٍ عجيب، وظلَّ لحظَةً على هذهِ الحال. الكولونيل أعرضَ إذْ أحسَّ أنَّ ذلكَ الرَّجُلَ لا يستطيعُ أن يفهَمَ ما كان يقولُ، ولا كيفَ جاءت على لِسانِهِ تلك الكلماتُ الّتي لا ترتبِطُ بالموضوعِ في الظَّاهِر؛ وفكَّرَ مُستيقِناً أنَّهُ لو قُدِّرَ لذلكَ الرَّجُلِ أن يكونَ في مكانهِ لَمَرَّت بِهِ حتماً تخيُّلات، ووقعَ في فِكْرِهِ أن يمضغَ ماضيهِ ويجلبَ موارِدَ ذنبِهِ إلى لِسانِهِ ويتفحَّصَها ويُنقِصَ من قيمتِها أمامَ نفسِه.
أيُّ دليلٍ يوجَدُ على أنّي أُفكِّرُ في ذنوبيَ الماضيةِ الّتي ارتكبْتُها، وأنّي الآنَ أُعاقِبُ نفسي عليها؟! أيُّ شخصٍ يستطيعُ أن يفهَمَ أنّي في كُلِّ لحظةٍ أعيشُها وفي كُلِّ خطوةٍ أخطوها أُحسُّ بالذّنْب، بالذَّنْبِ الثَّقيلِ أو بشيء يُغرِقُني فيه، يخنقُني، ولا أعلمُ ما هو، بل أُحسُّ بِهِ فقط. فقط أُحسُّ به. كأنّيَ مجبورٌ على الابتِلاءِ بالإحساسِ بالذَّنْب، وفِعْلُ خيالاتي مشدودٌ إلى هُناك، ففي كُلِّ لحظَةٍ وحيثُما كُنتُ أُحسُّ بالمأمورَينِ الغيبيّين يتعقَّبانني ويُراقبانِ سُلوكي وحركاتي. إنَّهُ لَمَحَلُّ شُكْرٍ أنَّني بعدَ إصابتي بقرحةِ المعدةِ والإثني عشر تركتُ المشروب، وكذلِكَ الأمرُ من حيثُ الميل الجنسي، فإنّي بعدَ قتلِ زوجتي صرتُ غيرَ حسَّاسٍ للجِنسِ وغيرَ مُحتاجٍ إليه. بناءً على ذلكَ فإنَّ الخَطَرَ المُتَمثِّلَ في هذا الموردِ من أن أنظُرَ لامرأةٍ وأن أنزلِقَ لا سمحَ الله، لا وجودَ له. وأنا لا أعملُ في المُعامَلاتِ التِّجاريَّةِ والبيعِ والشِّراءِ حتّى أُبتَلى في سياقِ التِّجارةِ والكسْبِ بالسَّرِقَةِ والاحتيالِ غيرِ المشروع. يبقى أمرُ معيشتي اليوميَّةِ الَّذي هو إلى اليومِ مُختَصَرٌ مُقْتَصِرٌ على حاجاتي وحاجاتِ وَلَدِي، وإذا ما أرادَ شخصٌ التَّحقيقَ في جُزئيَّاتِ حياتي فإنَّهُ سيصِلُ إلى هذهِ النَّتيجَةِ من دونِ شكّ، فأنا إلى الآنَ لم آخُذْ حتّى عُلبة سجائر واحِدة من يدِ ابنتي زوجةِ السَّيِّد قُرباني حجَّاج. كذلكَ فإنَّهُ لم يتَّفِقْ إلى الآنَ أنّي لم أدفَعَ ثَمَنَ كوبٍ من الشَّاي لـ يوسُف نُقلي قبلَ أن أخرُجَ من مقهاه. نسيانُ ما اشتريتُ لايجعلُني سعيداً. وبخصوصِ الطَّنبور... فإنّي لا أسمحُ لِنفسي بِأن يكونَ ذلِكَ وأنا مُتخَفٍّ، فقد كُنتُ أعزِفُ وإلى الآنَ لا أزالُ أرغبُ بالعزف، ولكنْ رَجَفانُ يديَّ، كَفَّيَّ، لا يجعلُ القيامَ بِهذا العَمَلِ باختياري. وها قد مرَّتْ سَنَواتٌ لم أحْمِلْ آلَتي الموسيقيَّةَ بِيدي، وطنبوري في إطارِهِ القديمِ مُعلَّقٌ بالحائطِ ويعلوهُ الغُبار، والمأمورانِ بِنَفْسَيهِما رأياهُ على الحائطِ ولم يكُنْ يظهرُ منهُ أنَّهُ يعمل. أخيراً ماذا؟ بقيَ أمرانِ مُهِمَّان، ذنبانِ عمِلتُهُما عَمْداً في حياتي. أَحَدُهُما قتلُ امرأتي، والآخَرُ عِصْيانُ الأوامِرِ العُليا بِشأنِ مأموريَّةِ ظُفار. نعم، قَتَلْتُ زوجتي، هذا صحيح. رفضتُ مأموريَّةَ ظُفار، هذا أيضاً صحيح.

الصفحات