أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 3

كانا يُفكِّرانِ بِكُلِّ ما يُريدانِ من شيءٍ مُبهَمٍ أو معلوم، أمَّا الّذي كانَ يشغلُ فكْرَ الكولونيل ـ بِصَرفِ النَّظَرِ عنِ الخوفِ الَّذي كانَ مثْلَ نهرٍ دائِمِ الجَرَيانِ في عُمقِ وجودِه ـ فهو عُمْرُ هذينِ الشَّابَّينِ اللذين كانا في السِّنِّ في مِثْلِ سِنِّ ولديه محمد تقي والصغير. كانَ يُفكِّرُ أنَّ مُحمّد تقي فيما لو بقي فإنَّهُ في شهرِ أسْفَنْدْ، وفي الثّاني عشرَ من شهرِ أسفند تماماً، سنةَ ألفٍ وثلاثِ مئةٍ وواحِدٍ وستين، كان سيُتِمُّ الحاديةَ والعِشرينَ من عمره، ولو بقي مسعود فإنَّهُ سيكونُ الآنَ في حدودِ السَّادِسةِ والعِشْرينَ من العمر.
... لكن ما كان يجِبُ أن أفعل؟ كان يجبُ أن أفعلَ ماذا؟ ألم يكُن عليّ... ألم يكُن يجبُ أن أفعلَ شيئاً، كان الأمرُ قد خرجَ من يدي. كان ولداي بالغَين. كُلٌّ منهُما كانَ إنساناً لِنفْسِهِ ثُمَّ لا دليلَ على أنَّهُما كانا ليسمعا كلامي. حديثاً... هل كُنتُ أستطيعُ أن أفرِضَ عليهما بأن لا يهيجا؟ كانت ثورةً، ثورة. في الثّورةِ كُلٌّ يجري خلفَ منفعةِ نفسِه، إلاّ إذا كانَ شابّاً. الشُّبّانُ... الشُّبّان... لا يُقالُ للشُّبّانِ أنّهُم يجرونَ وراءَ منفعةِ أنفسِهِم. كُلُّ شابٍّ في الثَّورةِ يسعى وراءَ حقيقةِ نفسِه، وراءَ حقيقَةِ وجودِ نفسِه، في هذهِ الثَّورةِ أعلى أنواعِ الهَيَجانِ للشَّباب، وفي مثلِ هذا الأوجِ من الهيجانِ فللشَّابِ حُكْمُ الحمامَةِ الّتي تطيرُ نحو الشَّمسِ العاليةِ، وتطيرُ إلى أن تحترِقَ بالشَّمس. وهكذا هو أوجُ حقيقةِ الشّباب! هكذا كان، فكما لو أنَّ الثَّورَةَ حملتْ ولديَّ معها ولا أستطيعُ الآنَ أن أتصوَّرَ في أيَّةِ نُقطةٍ من أوجِ نفسِهِ احترقَ كُلُّ واحِدٍ منهُما، أو هو يحترق. آهٍ... آهٍ على الجيرانِ وأهلِ مدينتنا ومواطنينا! لو عادَ شابٌّ نصفُ محترقٍ من المناطِقِ والحدودِ الَّتي احترقت وحقيقةُ نفسِه، حقيقَةُ نفسِه... مخدوعٌ مخدوعٌ وعقيدَةٌ أخرى أتت... ذلك الوقت... ذلك الوقتُ حيثُ القِطَعُ المصهورةُ... القِطَعُ المُذابَةُ... هذا السَّيلُ المُذاب...
ـ أولادي... أبنائي!... عفواً إلى داخِلِ الغُرفَة، ليسَ من الصَّحيحِ البقاءُ تحتَ المطر.
ماذا يُمكِنُ أن يُقالَ غيرُ هذا؟ حتّى لو لم يُبرِزا بطاقَتَيهما الشّخصيَّتين للكولونيل فإنَّهُ لن يمنعهما من الدُّخول.
لا يستطيعُ منعَ دُخولِهِما حقيقةُ هذا أنّني أخاف، من وقتٍ بعيدٍ وأنا أخاف. رُبَّما كان من المُمكنِ قفلُ بابِ باحةِ الدَّار. من المُمكنِ ألاّ يكونَ بابُ باحةِ الدّارِ مُقفلاً في وقتٍ ما. أيَّةُ صُدفةٍ أن يقعَ هذا في عينِ الوقتِ الّذي تُرِكَ فيهِ بابُ باحةِ الدّارِ مفتوحا. قفْلُ بابِ باحةِ الدّارِ شيءٌ ثانويٌّ في طبيعتِهِ بالنِّسبةِ للكولونيل، وهو لم يكُنْ يأتي بِهِ من بابِ الحَذَرِ، ولم يكُن يفعلُهُ بقصْدِ الحِفظِ والحِراسة، ولا... بل كان مُجرّدَ عادة، أنا أخافُ يا سيِّدي العزيز، أخاف. لا أعرِفُ من أيِّ شيءٍ ولا من أيَّةِ قوَّةٍ أخاف. عنديَ قدرٌ من الإدراكِ لأرى ابن آدمَ شيئاً غير متاعِهِ ولباسِ بدنِه، كما أنَّ ذِهني في كثيرٍ من الأحيانِ يقومُ بالتَّجسيم بغيرِ متاعٍ ولباسٍ وبغيرِ اختيارٍ مني، ويقعُ لي أن أسمعَ أصواتَ أنينِ جاموسٍ وحشيّ ـ من تلك الّتي رأيتُها قديماً في السّينما ـ وتتراءى لي وتصيرُ عينايَ مربوطتينِ بها. ومن الحق أن عينيَّ تُغلَقانِ من الرُّعبِ إذْ أحسُّ أنَّ أُناساً مثيرينَ للرُّعبِ جدّاً ـ وجوهُهُم مُغصَّنَةٌ بأغصانٍ عجيبة ـ من مثْلِ تلك الّتي رأيتُ في السينما ـ يأتونَ ويدمِّرونَ كلَّ شيءٍ، ومن جُملةِ ما يُدمِّرون أنا، يكسرون العظمَ نِصفَين. كابوس... سيّدي العزيز
ـ لكن لماذا لا تتفضّلون بالجلوس، تفضّلوا... رغمَ أنَّ هذِهِ الكراسي ذهبتْ جِدَّتُها وصارتْ جُلودُها كالخُبْزِ اليابِسِ تُؤذي. لكنْ قديماً قيل الموجودُ في البيتِ والضَّيْفُ أيّاً كان... على كُلِّ حالٍ تفضَّلوا اجلسوا.
لا بُدَّ من الجلوسِ أخيراً... ها؟... نعم، يجلسون... المنديل، نعم...

الصفحات