أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

يعلَمُ أنَّ ابنهُ سيُمسَخ، هذا يعلمُه، لكنَّهُ لا يعلمُ بِأيِّ وجه، لأنَّ هذا ممّا لا يُدرِكُهُ مثلُ عقلِهِ القاصِر. أمّا حالةُ مسخِ أمير فيُمكنُ أن يراها في عينيهِ المُشِعَّتَينِ الممزوجتينِ بسكونِهِما أو التِهابِهِما، مع علامةٍ على الهولِ والنَّدَمِ والحَيرَةِ والضَّعفِ فيهِما. أملُ وسعادةُ قلبِ الكولونيل كانا يأتيانِ فقط من رؤيةِ شَبَحِ ابنِهِ من وراءِ زُجاجِ النَّافِذةِ الكَدِرِ، وهو يَصنَعُ تِمثالاً لأمير نظام، حيثُ يستطيعُ قلبُهُ أن ينشغِلَ بِشَكلٍ صحيحٍ وسليم، وندامتُهُ كانت لأنَّ السَّيِّد خضر جاويد جاءَ إلى المنزِلِ وذهبَ دونَ أن يتذكَّرَهُ أمير بأيِّ شكل، ممّا أثارَ قلقَهُ من أن تكونَ الفواصِلُ بينَ كوابيسِ أمير تقصُرُ في كُلِّ دورةٍ عن سابِقتِها.
أما أنا فقد مرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا أسعى لِحِفظِ هدوءِ نفسي بأيِّ شكلٍ، فلا أخرجَ من الإقليم. وأسعى فوقَ ذلكَ ومنذُ زَمَنٍ إلى ألاّ أندهِشَ أو أتعجَّبَ لرؤيةِ أو سماعِ أيَّةِ حادِثةٍ أو خبر ـ رغمَ أنَّهُ، لو أنّي كنتُ ذكّرتُ أمير بخضر جاويد، فمن الممكنِ أن يكون... ربّما يجبُ أن أمنعَ هذهِ الحادثة، أو بالأصحِّ أن أؤخِّرَها قليلاً؟ لا، فقد مرَّت أربعُ عشرةَ سنةً من عمره، أيُّها السّادة!... لكن... يجبُ أن أتأكَّدَ من أنّي أقفلتُ بابَ الدّارِ خلفي. نعم، أستطيعُ أن ألمَسَ المفتاحَ في جيبِ معطفي بأصابعي. ولكنْ هل قفلتُ الباب حقاً؟ رُبّما قفلتُهُ وربَّما لم أقفلْه. لا أعلم. ليتني أستطيعُ التَّأكُّد، ليتني... أنا أتردَّدُ والتَّردُّدُ دائماً إلى دَرَجةٍ تؤذيني.
السَّيرُ أمامَ هذينِ المأمورَينِ أمرٌ بديهيٌّ في نَظَرِ الكولونيل، لأنَّهُ يعرِفُ القرارَ بِأنَّهُ حين يُتَّهَمُ شخصٌ بأيِّ اتِّهامٍ ويُؤخَذُ أمرٌ بإيقافِهِ ويُعتَقَل، فيجبُ أن يسيرَ في الطَّريقِِ بين كتِفَي المأمورَين وأمامَهما قليلاً، حتّى يكونَ مسيرُهُ تحتَ أنظارِهِما، وهذا العملُ يُعرَفُ بالحَدَس، هكذا كانَ الأمرُ يجري وعلى نفسِ المنوالِ طوالَ القرونِ والأعصار. هذا يعلمُه، أمّا أنا فيجبُ أن أطمئنَّ إلى أنَّني أغلَقْتُ بابَ الدَّارِ خلفي! والكولونيل لم يكن شابَّاً فيقدِرَ على ممانَعَةِ القوانينِ غيرِ المكتوبة. رأسُهُ كانت للأسفل ونَظَرُهُ مشدودٌ إلى ما بين قدميهِ وظهرُهُ منحنٍ، حتّى كأنَّهُ يحسُّ بحافَّةِ قبَّعتِه المدوّرَةِ الرَّماديَّةِ وظلُّها واقِعٌ على ظلِّ أرنبة أنفِه، كما يستطيعُ أن يحسَّ بجناحَي معطفِهِ وكأنَّهُما صارا أطول، حين كان يُضطرُّ لسحبِ حافَّتَيهِما على ساقَيْهِ بعيداً عن الوحلِ والطّين على وجهِ الزُّقاق.
ـ من هذه الجهة، كولونيل!
نعم، بهذا الشَّكل، يجبُ أن أذهبَ في الجهةِ الّتي ينظرانِ إليها.
قطعوا الزُّقاق وصاروا في الشَّارِعِ الكبير. عندَ رأسِ كلِّ زقاقٍ يتفرَّعُ من الشّارعِ الكبير يقفُ عمودُ كهرباءٍ عليهِ مصباحٌ ينيرُ ضوءُهُ التَّقاطُعَ وجزءاً من الشَّارعِ الكبير. بعدها وصلوا إلى ساحةِ البَلَديَّة الَّتي تقعُ دارُ القضاءِ في ضلعِها الغربي، وكان يجبُ الصُّعودُ إلى بناءِ دارِ القضاءِ في دَرَج. لكنْ قبلَ الورود يتبغي المرورُ واحداً واحداً بين عمودَين بمصباحينِ مشِعَّين جُعِلا علامتَين على اتِّجاهَينِ للدُّخول. طريقُ الدَّرَجِ كانَ مُطْفَأَ الأنوارِ ونِصْفَ مُظلِمٍ إلاّ من شُعلَةٍ للكهرباءِ بلا رَمَقٍ ملتصِقَةٍ بالسَّقْف، تُنيرُ قليلاً الفضاءَ المُزدَحِم، والكولونيل لستُ على جَهْلٍ بنظامِ التَّوفير، وباحتياطٍ يتلاءمُ مع السِّنِّ والعُمر، يرفعُ قدمهُ، حيثُ الدَّرْجاتُ عليها الطِّينُ والوحلُ من أقدامِ الَّذين دخلوا عليها وخرجوا عنها، وكانت لا تزالُ رطبةً وموحِلة.
لم يكُن الكولونيل حين كان ضابِطاً في الجيشِ وحتّى إخراجِهِ منهُ، من أهلِ القمارِ والمنشَغلينَ به. ولم يكُنْ من أهلِ الألعابِ الأخرى كالبريدج والبليارد، لكِنَّهُ يعرِفُ أنَّ هناكَ صالوناً في الطَّبَقَةِ العُليا من البناء كان محلاً لِلَعِبِ البليارد، دون أن يكونَ قد رآه. في شبابِهِ كان يعزِفُ على الطَّنبور، وهو لا يزالُ إلى الآنَ راغِباً بالعزفِ عليه. في الأيّامِ الأخيرةِ صارَ عندَهُ زوجٌ من الحَمامِ المنزلي، لم يكُنْ ذاكَ دونَ علاقةٍ بِطائِرِ القُنارى لابنتِهِ بروانة، كان يسعى بدونِ جدوى لِتَخيُّلِ لُعبَةِ البليارد الَّتي رُبَّما لم يكُنْ رآها أكثَرَ من مرَّةٍ واحِدَةٍ في عُمُرِه، ورسمِ صورتِها في خيالِهِ. والآنَ إذْ يرى رجُلاً يجلِسُ على طاولةٍ كبيرةٍ يُغطِّيها نسيجٌ أخضرُ سميكٌ وكم يُشبِهُ هذا الرَّجُلُ صِهْرَهُ السَّيِّد قُرباني حجّاج! وهُناكَ رَجُلانِ يجلِسانِ على الضِّلعِ الأُخرى من الطَّاوِلة، فقد أيقن عندهُ يقينٌ أنَّ هذهِ الطَّاوِلَةَ يجِبُ أن تكونَ واحِدَةً من طاوِلاتِ لُعبَةِ البليارد وقد أُزيلَتْ حوافُّها الجانبيَّةُ المُرتفِعَةُ لتستفيدَ منها دارُ القضاءِ كطاوِلَةٍ مؤقَّتة.
ـ أنتم ضابِطٌ سابِقٌ، كولونيل؟
ـ نعم...كُنت.
ـ إذا كُنتُم ترغبونَ في أخْذِ هذه الجنازةِ والقيامِ بتكفينِها ودفْنِها فعليكم دفعُ مبلغٍ للصُّندوق.
ـ نعم...نعم...
ـ المُقدّماتُ أُنْجِزَتْ تماماً، سيكونُ معكَ اثنانِ إلى نهايةِ مراسِمِ الدَّفن.
ـ نعم...نعم... آتي...على عيني...على عيني.

الصفحات