أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 4

من الممكِنِ حملُ منديلٍ وتجفيفُ الشَّعرِ الأبيضِ من المطرِ الّذي دخلَ فيه والتَّخلُّصُ من البلَلِ ومسحُ الوجهِ والحاجِبَين، أمّا ما عداهُ فصارَ بعيداً. بعيداً في تفكيرِه. الآنَ وبالقدرِ المُستطاعِ يُشعِلُ سيجارتَهُ وظهرُهُ إلى المِدفأةِ وهو جالِسٌ على كُرسيٍّ بِلونٍ صنوبري. كانَ يُحسُّ بالرِّضا، بل وكانَ يُحسُّ بالاطمئنانِ، رغمَ أنَّهُ كانَ مُضطرّاً لِمسكِ قبضَةِ يدِهِ اليُمنى بيدِهِ اليُسرى والسَّعيِ لكي لا تكونَ منها انزلاقةٌ خطيرة. رُبَّما كانتِ السَّيجارةُ الّتي يُمسِكُها بينَ إصبَعيهِ أسوأَ من يدِهِ وهو يتحرَّكُ بلا توقُّفٍ ويهتزُّ بِشَكلٍ ظاهِر. مدينتُنا ليست مركَزَ المُحافَظَة، فلا يُمكِنُ للنَّاسِ فيها ألاّ يعرِفَ بعضُهُم بعضاً. لو تمكَّنتُ من جمعِ حواسّي والسَّيطَرَةِ على أعصابي فأنا مُطمئنٌّ إلى مقدرتي على معرفَةِ ضيوفي، بالقليلِ من العلاماتِ من آبائهم. فأنا وإنْ لم أكُنْ في الأصْلِ من المنطِقة إلاَّ أنَّني أسكُنُ هنا مُنذُ زَمَنٍ طويل، وقد وُلِدَتْ بروانتي في هذه البلدة، في تلك السِّنين لم يكنْ عمرُ أكبرِ أولادي أمير أكثرَ من خمسَةِ عشرَ عاماً، وأوسطُ أولادي كانَ في عمرِ الأطفال، ولم يطُلْ بهم الوقتُ حتّى تمكّنوا من النُّطْقِ بِلهجَةِ أهلِ المنطقة، وإذا ما أعانني ذهني فإنَّني أستطيعُ وبِشكلٍ قطعيٍّ أن أكتشِفَ من حديثِ ضيفَيَّ ما إذا كانا يعرِفانِ مسعود ومحمد تقي، وما إذا كانا لهُما رفيقَينِ وصديقَين؛ أتخيَّلُ أنَّهُمْ كانوا في صفٍّ واحِدٍ وكانوا يجلسونَ على مقعدٍ واحِد، وفي اللّيالي والأيّامِ المليئةِ بِضوضاءِ الثَّورة لا بُدَّ وأنَّهُمْ كانوا يعرِفُ بعضهُم بعضاً... ها؟.
لا. كانا ساكِتَينِ وكانا يُخفيانِ وجهَيهِما كأنَّهُما في خَجَلٍ في المحضر.
الشَّابُّ الَّذي ذكّرَ الكولونيل، بمحمّد تقي، ـ أو أنَّهُ أرادَ أن يكونَ هكذا ـ لم يتحمّل، نهضَ ووقَفَ إزاءَ الصُّورةِ الكبيرةِ للكولونيل، وجَعَلَ عينَهُ على عينِ صورةِ محمّد تقي، وظلَّ على هذهِ الحالِ ينظُرُ نظراتٍ طويلةً، وقُبَّعةُ معطفِهِ مرخيَّةٌ على كتِفَيه، وهذا الّذي كانَ على حَدَسِ وظنِّ أن الكولونيل مثل مسعود في الشَّكلِ والوجه، جالِسٌ مثلهُ، واضِعٌ مرفقيهِ على المِنضَدة، ويداهُ متقاطِعتان، ورُبّما كان ينظُرُ إلى ذلك الجُزءِِ الَّذي تظهرُ خيوطُهُ من وجهِ المنضَدة القديم القرمزيِّ اللّون، وهو لا يزالُ صامِتاً إلى الآن.
الشُّبّانُ... الشُّبّان! لكأنَّ الشَّخصَ الشَّابَّ خُلِقَ محجوباً بالفِطرة، لكِنَّ في وجودِهِ قُدرةً واستِعداداً غريبَين، فهو بسُرعةٍ قلَّ نَظيرُها يستطيعُ أن يتبدَّلَ لواحِدٍ من أوقَحِ الأحياءِ على وجهِ الأرض. حيٌّ لم يرتكِبْ جُرماً طوالَ حياتِهِ ولم يعزِمْ عليه، يُمكِنُ لهُ بِناءً على تلكَ القابليَّةِ لديهِ أن تحصَلَ على يديهِ جميعُ الجناياتِ الرَّهيبةِ الّتي حصلتْ في التَّاريخ. الوصيَّةُ الّتي مراراً ومراراً كان توفيقُ الشَّابِّ في تنفيذِها ثابِتاً. أيُّ عَمَلٍ وأيَّةُ حِرفَة! لكن... نحنُ ماذا؟ نحنُ الّذين كُنّا بِطَلَبٍ وبِدونِ طَلَبٍ نُرسِلُ لُقَمَ الطَّعامِ إلى الزُّقاقِ لِتصيرَ ذخائرَ لهُم، ليُقرِّروا اختيارَ شقاواتِ الدَّلالِ الأولى، وكُنّا نظلُّ ننتظِرُ إلى أن تُختَطَفَ لُقَمُ الطَّعامِ من أيدينا اختِطافاً، وسوفَ تتحوَّلُ إلى سيفٍ مرفوعٍ علينا.
ـ هذا اِبني محمد تقي كان في السَّنَةِ الأولى من الطِّب...
ـ أعرفُهُ... أنا أعرِفُه...
لعلّهُ ما كانَ يجِبُ أن يُنطَقَ مِثلُ هذا المقال أو يُسْمَعَ مثلُ هذا الجواب. فالكولونيل من إحساسِ نفسِهِ ومن حالةِ وهيئةِ وقوفِ ذلك الشَّابِّ الصَّغيرِ، كانَ قد استنبطَ ذلك، والآن فهِمَ أنَّهُ كانَ يعرفُ ولده. قلبُهُ كان يُريدُ أن يكونَ مُطمئنّاً إلى أنَّهُ يعرِفُ محمد تقي، رغمَ أنَّ خيالَهُ لم يذهبْ إلى ما الَّذي يُغيِّرُ في الأمرِ أن يعرِفَهُ أو لا يعرِفَه، وهي معرفةٌ في الماضي، ولا يُعرَفُ ما كانت تلكَ المعرفة. هنا وللحظةٍ قصيرةٍ وسريعةٍ فإنَّ حواسَّ الكولونيل إلى مكانٍ آخَر وشيءٍ آخَر، ذهبتْ بِغيرِ طريقٍ إلى صحراء، رُبَّما من الأمواجِ الهائلةِ الّتي كانَ الكولونيل نفسُهُ قديماً يخوضُها.
محمد تقي مثلك قليلُ الصَّبر.
بالنِّسبَةِ للجميع، كانَ من الأكيدِ أنَّهُ لن يبقى مُقابِلَ صورةِ محمد تقي أكثر من ذلك. ولم يكُن الكولونيل يُفكِّرُ أنَّهُ من المُمكنِ أنَّ ذلكَ الشّابَّ بسُرعةٍ إلى مُقابِلِ صورةِ بروانة. لا، جاء وجلَسَ ونَظَرَ إلى صفحةِ ساعةِ معصمِهِ ثُمَّ أدارَ وجهَهُ إلى رفيقِه، وبدا للكولونيل وكأنَّهُ مرَّ عليهِ وقتٌ طويلٌ وهو ينتظِر. الوقتُ يمُرُّ وإلى الآنَ لم يتَّضِحْ شيء. وهما وإنْ انتظرا وقتاً، فانتِظارُ الكولونيل كانَ في إبهام، وهو في كلِّ لحظةٍ من اللّحَظاتِ كانَ يُحِسُّ بكُلِّ جُزءٍ من سلوكِهِما البدائي قليلاً. حيثُ أنَّهُ إلى الآنَ لا يعرِفُ أين ستقصدُ الضَّربةُ منه، فقط كان يحسُّ أنَّهُ بانتظارِ ضربة، وكانَ في هذا الانتظار. كانَ على يقينٍ من ذلكَ، وأنَّ الشَّابَّينِ كقِطَعٍ مُذابَةٍ ومُذيبة أخالُها راجِعَةً من الشَّمسِ إلى الأرض لم يطرقا بابَ دارِهِ حامِلَينِ المرهمَ لِجراحاتِه. يجِبُ الانتِظارُ ودوامُ الانتِظار حتّى يكونَ واحِدٌ منهُما ولا أعرِفُ مَن منهُما؟ المُنَفِّذ. قال:
ـ اقترِبْ منّي خُطوةً واحِدَةً للحُكْم!
ـ حُكْم؟!
ـ هناك سيقولونَ لك، يا كولونيل!

الصفحات