أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 6

لم يضِلَّ فِكْرُ الكولونيل كثيراً. حيثُ أنَّهُ لمْ يُرَ أيُّ سلوكٍ عجيبٍ وغريبٍ من أمير حتّى بعدَ نومِهِ المُضطَرب، وبعد مرورِ الكابوسِ، كان يجلِسُ هادئاً على حافَّةِ سريرِهِ ويمسحُ العَرَقَ عن جبينِهِ وأجفانِهِ بمنديلٍ قديمٍ كان يحتفِظُ بِهِ نظيفاً دائماً ويُدخِّنُ سيجارة. حتّى أنَّهُ سُمِعَ أميرُ يتحدَّثُ إلى نفسِهِ يقول: أتحمَّلُ، أتحمَّلُ وأحاوِلُ أن أتحمَّل أكثرَ إذا ما تركتْ الكوابيسُ ليَ المجال. وسُمِعَ، من لِسانِ أمير نفسِهِ، سُمِعَ أنْ عقلي لا يزالُ في مكانِه، أقولُ إنَّ عقلي لا يزالُ في مكانِه. والكولونيل يعتقدُ أنَّ ولدهُ لا يزالُ يُفكِّرُ بِشكلٍ جيّدٍ، ويعتقِدُ أنَّهُ يسعى ليكونَ صابِراً. أمير لم يتوقَّفْ حتّى عن عَمَلِ مُجسَّمِ أمير نظام، والكولونيل كان قد رأى شَبَحَ تلك التَّماثيل من خلفِ الزُّجاجِ الّذي يعلوهُ الغُبارُ لِنافِذَةِ القبو. فكيفَ يُمكِنُ أن يكونَ يائساً منه؟ في المرَّةِ الأولى الّتي أُعرِّفُ فيها أمير نظام بنفسي، قُلتُ لهُ يجبُ أن يكونَ مظهَرُ وتعبيرُ روحِ الأمَّةِ في روحِنا وعينِنا! ما كان يجِبُ أن أفعَلَ ذلك. لماذا ما كان يجب؟ ولكن... في بعضِ اللّحَظات، أُحسُّ بالخجلِ والحياءِ من تعريفِ أولادي بِعالَمِ هؤلاءِ الرِّجالِ الأحرارِ عابِدي الوطن، وتأتي لحظاتٌ أحسُّ فيها أنَّني خُنْتُهُم بهذا العمل. شيءٌ حَسَنٌ أنَّ هذهِ اللّحظاتِ تمُرُّ بِسُرعةٍ، فلا تجِدُ مجالاً لتترُكَ في نفسي صورَةَ أصْلٍ مُسَلَّمٍ بِه، وعلَّتُها أنَّني كُنتُ في الماضي أقومُ بالاستدلال، أستدِلُّ أنَّني يجبُ أن أُنجِزَ وظيفتي كوالِدٍ تِجاهَ ولدي. وأحياناً كُنتُ أذهبُ أبعَدَ من ذلكَ وأُبتَلى بالفخرِ والغرورِ، حين أرى أنَّني علَّمتُهُ تاريخَ مائة عامٍ من الرّقيِّ والتَّقدُّم. إذا لم أكن عملتُ مثلَ هذا العمل فماذا كان يجبُ أن أعمل؟ كيف تبقى أُمَّةٌ حيَّةً إلاّ بِمِثلِ هذا؟ ذهنُ الشَّابِّ بِحاجةٍ للتَّفكيرِ والموضوعِ الفِكري، وأنا كأبٍ لا يحقُّ لي أن أكونَ لا مُبالياً إزاءَ هذا الاحتياجِ المعقول. إذن لماذا اللّومُ لنفسي، لماذا يجبُ أن ألومَ نفسي؟ ما العملُ الّذي كان يجبُ أن أعملَهُ غيرَ هذا؟ هل كان يجبُ أن أكذب؟ ممّا مرَّ وجدتُ أنّني كُنتُ أكتُمُ الحقيقة، وجدتُ أنّي كنتُ أُلقِّنُهُم لِمَ ولِمَ ولِمَ... من معلوماتٍ لم يصلوا إلى معرِفَةِ حقائقِها؟ وأخيراً ماذا يمكنُ أن نعملَ لِشابٍّ إيرانيّ حتّى لا يقولَ عن اللّيلِ إنَّهُ نهار؟ لا! لا يجبُ أن أكونَ نادِماً وخجِلاً. من الحق أنه ليس لي أن أعتقِدَ أنِّني خُنتُ ولدي. لماذا يجبُ أن يجِدَ مثلُ هذا الظَّنِّ طريقهُ إلى ذِهني؟ ماذا حصل؟ ماذا يحصلُ حتّى يُصابَ الإنسانُ بالخجَلِ من إنجازِهِ أكثرَ الأعمالِ معقوليَّة، أولادي... أولادي!
رأسي... رأسي... رأسي... تكادُ تنفجِرُ يا أبي!
هذهِ العبارةُ سمعها الكولونيل مرَّاتٍ من لسانِ ولدِهِ من خلفِ جِدارِ ونافِذةِ قبوِ المنزلِ، أوقاتَ كانَ أميرُ يئنُّ ويضغطُ على رأسِهِ بيديه. هو يعلمُ أنَّ أمير يُصابُ بالحمّى بعد كلِّ كابوسٍ، ويعلمُ أنَّهُ لا يستطيعُ أن يُعطِيَ جواباً لِنفْسِهِ من نفسِهِ، ولا أن يأخُذَ جواباً لنفسِهِ من الأحياء، وفي حَدَسِهِ أنَّ ابنَهُ يصيرُ من هذِهِ الحادِثَةِ أعمى حتّى لا يعودَ خاطِرُهُ يُريدُ التَّفكير؛ وقطعاً ليس معنى هذا في نَظَرِ الكولونيل أنَّ أمير لا يستطيعُ التَّفكيرَ أصلاً، لأنَّ عندهُ اليقينَ أنَّ عقلَهُ في محلِّه، كما عندهُ اليقينُ أنَّ فرزانة مُخطئةٌ إذا كانت تتوهَّمُ أنَّهُ فقدَ عقلَه. ويعتقِدُ أنَّ ليس لفرزانة أن تضعَ رأسَها برأسِ أمير كثيراً. ويعتقِدُ أنَّهُ على فرزانة أن لا تأتيَ على ذِكْرِ إخوةِ أمير وأخواتِهِ عنده وتزيدَهُ بلاءً وأسَفاً. فقد كان واثِقاً أو على الأقلِّ كان يظنُّ أنَّهُ كانَ واثِقاً أنَّ أمير لا يُفكِّرُ بإخوتِهِ وأُختِهِ بروانة إلا في لحظاتٍ عابِرة، لحظاتٍ تجعلُهُ غافِلاً فيفقدَ السَّيطَرَةَ على نفسِهِ ليجرؤَ على التَّفكيرِ في هكذا فاجِعة، وأفجعُ منها عَدَمُ اليقينِ فيها وبليَّةُ الشّكّ. والكولونيل يستطيعُ أن يفهمَ هذا وأنَّ الإنسانَ حين يكونُ في خلاءِ العجز، والعجزُ شيءٌ نِسبيٌّ، فلا دليلَ لديهِ على أنَّهُ لن يكونَ ذليلَ الشَّكِّ واليأس. ففي مثلِ هذهِ الحالاتِ ثمة ميدانٌ وحيدٌ يستطيعُ فيه أن يجولَ ويجولَ كثيراً، هو ميدانُ الحَيرة.
أنا بِنفْسي أوجَدْتُ لنفسي ما لهُ حُكْمُ سؤال، سؤالٍ ما لهُ في تصوُّري جوابٌ سوى في الموت. صرتُ مُضطرّاً للشّكِّ ليسَ بقوميَّتي ومِلَّتي فقط، بل حتّى بِآدَميَّتي. من أكون، ما أكونُ؟ وأين أكون؟
يجِبُ أن يكونَ الكولونيل قد سمِعَ هذا الكلامَ من لِسانِ أمير. كثيراً ما ظنَّ هذا. هو خاتمة الكلامِ الَّذي ليس من الواجِبِ أن يجيءَ على لسان، إلا أن يكونَ الكولونيل قرأهُ لابنِهِ أمير في محضرِ فرزانة. فرزانة الّتي كانت تعضُّ على شفتيها وتبكي بهدوء. لقد صارَ نحيلاً، هو الآنَ يستطيعُ أن يُذكِّرَ الكولونيل بوالدتهِ ذاتِ الشَّعرِ اللامعِ الخرنوبيّ والحدقتين المضيئتين المائلتين للخُضرةِ والجبين المزيّن، المرأةِ الشَّديدةِ ذاتِ النُّدبةِ على ذقنِها الظَّريفة، والدُّنيا المشوَّشَةِ المُضطربةِ المُخيِّبَةِ للآمال والّتي تحكي في وجهِها وفي نظرتِها بِلِسانِ الحالِ صبرَ وتحمُّلَ أمير وكلِّ واحِدٍ من أفرادِ الأسرة.
أنت ضِعتَ يا أخي، وأنا... أمير، فقدتُ إيماني.

الصفحات