أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

يعلمُ أنَّ كُلَّ شيءٍ جاهِزٌ وأنَّه عطَّل قدَرَه وأنَّ عليهِ الآنَ أن يسير, سارَ على طول صالون البليارد الخالي ليصلَ إلى بابِ الخروج, خرج من الباب، انحدرَ على الدّرَج الذي تُفضيْ درجاتُهُ في الخارِجِ إلى واحدٍ من عمودَي المصباحَين، حيث وقفَ بانتِظارِ سائِقِ سيَّارةِ الإسعاف. وعلى قدر إمكانيَّةِ التَّشْخيصِ، فقد رأى الشَّخصَين اللذين كانا قد جاءا إلى المنزلِ بجانبِ سيَّارةِ الإسعافِ وكانا واقفَينِ تحتَ المطرِ، يلمعُ المعدنُ في حلقاتِ سلاسلِهِما تحت ضوءِ المصباحِ وقد رفعا قبّعَتَي معطفيهما إلى ما فوق رأسيهِما، وحذاءاهما وسروالاهما قد ابتلّت جميعاً بالماءِ وتلوَّثَتْ بالطِّين، وانتَبَهَ إلى أنَّ ذلك الأفتى منهما قد أزال الشعر الناعم عن وجهه فبان أكثرَ شباباً, وشعرُهُ الأسودُ الجميلُ يغطّي وجنتيه، والكولونيل الآن ينظرُ إلى سيَّارةِ الإسعافِ تحتَ المَطَرِ الَّذي يغسِلُها بانتظارِ أن تبدأَ مرحلةٌ أخرى من العمل.
ـ أنتم اجلسوا في الخلف.. كولونيل.
كان السائق، ودون أن يلتَفِتَ إليهِ الكولونيل، مستعِدّاً، وهذا يجب ألاّ يفوتَ الكولونيل بسببِ ضعفِ الرُّؤيةِ في عينيه. ربَّما كان هذا مرتبطاً بطبيعةِ السّائقين الشُّبّان الذين غالباً ما يتصفون بالسُّرعةِ والحزم بعكسِ السّائقين القُدامى الَّذين كانوا يقودون الشاحنات التدريبيَّة بعد الحرب، وكان سلوكُهم وحركاتُهم ـ من ثقلها ووقارها ـ على قدرٍ من الرِّياء. فمثلاً حين يوقفون الشاحنة قرب المقهى، ويترجَّلونَ منها يبدو أحدُهُم وكأنه يلقي حمْلاً من ثلاث مئة كيلو عن كتفهِ إلى الأرض. ودائماً يلُّف الواحِدُ منهُم منديلاً من الحرير حول عنقه، وحين يسيرون على أقدامِهم تكونُ إحدى اليدين وكأنَّها تعقدُ المنديلَ وتتعلَّقُ به. هكذا كانوا يقودون، وبنفس الثقل والوقار، بأكعابِهم النّائمةِ، وبعد أن يعطيَ كلُّ واحِدٍ منهم التّعليماتِ لتلميذه يبتعدون عن السَّيَّارةِ ويفرشون حصيرةً على ضفة جدول الماء الذي يمر بجوار المقهى، ويجلسون ويغسلون من على أيديهم ووجوههم الزّيوت والدهون، ويبتعدون دون أن ينتبهوا لأنفسهم عن السَّيَّارةِ ليهتمَّ بها الطَّالِبُ الّذي يكونُ في طَورِ الاختبار.
أمّا سائقو اليومِ من الشُّبّانِ فعندهُم أخلاقٌ أخرى وسلوكٌ آخر بنَظَرِ الكولونيل. غالباً ما يبدونَ قُساةً جُهَلاء، حتّى لو كانوا سائقي سيَّارَةِ إسعاف. وكأنَّ أحدَهُم هِرٌّ يرى الفريسَةَ في مُتَناوَلِ يدِه. هذا يعني أنَّهُم لا يُفكِّرونَ في سلامَةِ أنفُسِهِم أصلاً وكأنَّهُم لا يعرِفونَ إلاّ دوّاسةَ البنزين، وحتّى ولو كانت تُمطِرُ أو يسقُطُ البَرَدُ وماءُ المَطَرِ يملأُ الحُفَرَ، فإنَّ ذلِكَ لا يشغلُهُم ولا يهتمُّونَ بِه ولا يُراقِبونَ موضعَ أيديهِم إلاّ قليلاً، ولا يُراعونَ حالَ رجُلٍ عجوزٍ يجلِسُ في الخلْفِ وقدِ التَصَقَ بتابوتِ ابنتِهِ على مقعَدٍ ضيِّقٍ. الكولونيل يعلمُ أنَّهُم راعوا حُرمَتَهُ بتقديمِهِم سيَّارَةَ إسعافٍ كامِلَةٍ لِحملِ تابوتِ ابنتِه، لكِنَّهُ بالمُقابِلِ يرى أنَّ السَّائقَ لا رِعايَةَ لَدَيهِ وأنَّهُ أحياناً يسوقُ كما لو كانَ لَدَيهِ، جُثَّةُ نعجَةٍ يحمِلُها من محلِّ القصَّابِ طَرَفَ البازار. كان عندهُ اليقينُ أنَّ السّائقَ يضرِبُهُ النَّومُ ـ على طريقةِ ما اعتادتْ عليهِ الكلابُ في النَّوم ـ وقبلَ أن يصلوا إلى المغسَلِ وينزلوا التَّابوت جاءتْ على لِسانِهِ مئةُ لفظَةِ فُحْشٍ بما أنَّني لستُ الأقلَّ ذنوباً بينَ الموجودين. ربّما... رُبَّما كانَ ذِهنُهُ يسعى بِلا إرادةٍ منهُ ليَجِدَ محلَّا من التَّقصيرِ له وفي أغلب اللّحظاتِ كانَ يفكر أنَّهُ لو لمْ تكُنْ زوجتُهُ مقتولَةً لما كانت ابنتُهُ نائمَةً في هذا التَّابوت. لكنَّهُ يعلمُ، يعلمُ جيِّداً أنَّهُ لا مفرَّ لهُ من مُقاومةِ هذا الخيال، لأنَّهُ يعلمُ يقيناً أنَّهُ لا يوجَدُ سبيلٌ لأيِّ تغييرٍ فيما حَصَل. حقيقةُ الواقِعِ الَّذي استقرَّ أمامَ وجهِه أنَّ بروانة كانت تنامُ في تابوتٍ تفوحُ منهُ رائحةُ الدَّمِ والرُّطوبة، ومعَ كلِّ حَرَكَةٍ غيرِ ملائِمَةٍ من سيَّارةِ الإسعاف، فإنَّ جَسَدَها النَّحيلَ وعِظامَها الشَّبيهةِ بِجِسْمِ سَمَكَةٍ نِصفِ حيَّة، تنزلقُ هنا وهناك. بروانة كانت صغيرةً والكولونيل لا يستطيعُ أن يتخيَّلَها من دونِ عباءتِها الرَّماديَّة. وحتّى بروزُ عظمَي كتِفَيها فإنَّهُ لا يستطيعُ أن يراهُ إلاّ بلونٍ رمادي. علاوةً على ذلكَ فإنَّ سلوكَ وحرَكاتِ بروانة تتداعى في ذهنِ الكولونيل بسبَبِ طائرِ القُنارى الَّذي أُطلِقَ عليهِ من اليومِ الأوَّلِ اسم بروانة. ربّما بِسَبَبِ التَّلقين، أو بسبَبِ إحساسٍ خاصٍ من الأبِ تِجاهَ ابنتِهِ الَّتي فقدتْ أُمَّها فصارت محلَّ اهتِمامِه، كان الكولونيل جرّاء ذلك يحبُّ بروانة بإحساسٍ مُختَلَطٍ، أبويٍّ وأموميٍّ معاً، ودائماً يراها كطائرٍ حديثِ الرِّيش يُريدُ أن يتعلَّمَ كيفيَّةَ الطَّيَران. وهو من هذا المنظورِ كان يرى قدومَ ومُغادَرَةَ بروانة للمنزل. وهكذا فإنَّهُ أحسَّ وقتَ فُقِدَتْ بِأنَّ الرِّيحَ حملَتْها وأضاعَتْها.
الرِّيحُ تُضيعُها، تُضيعُها. تربيةُ الحَمامِ ليست حِرفتي. لكنّني أعرفُ منها أنَّ الحماماتِ الحديثةَ الرِّيشِ تضيعُ في الرِّيحِ، خصوصاً ريحِ الغروب. الرِّيحُ تُضيعُها، تُضيعُها، تلُفُّها، وعندَ ذلِكَ إمَّا أن يكونَ ريشُها هشَّاً فتكسِرَهُ، أو أنَّها تُضيعُها في طَيرانِها وترمي بها بعدَ شِدَّةِ معاناةٍ في مكانٍ ما. الباشقُ والجوارِحُ ليست قليلةً في مُعتَرَكِ الرِّيحِ والطُّوفان.

الصفحات